الأربعاء، 1 يونيو 2011

الثقافة بعد انهيار الأنظمة الشمولية (4)



الأدب الروماني

تبدو الأنظمة الدكتاتورية مثل قطع مفاجئ في تاريخ تطور ثقافات الشعوب، وذلك بفرضها نمطا واحدا في القول والكتابة ذات الطبيعة الدعائية، وقد يدفع هذا الأدباء والكتاب بعد زوالها إلى أن يكون موضوعهم الأثير هو تجسيد القمع والاستبعاد، وتدمير الأيديولوجيات ذات البعد الواحد لعلاقة الإنسان بالآخر، كما هو حال أعمال كونديرا أو هيرتا موللر الرومانية الأصل التي فازت منذ عامين بجائزة نوبل في الآداب.
وتستكمل القبس تحولات الأدب والثقافة في البلدان التي عانت من الأنظمة القمعية، وما آلت إليه بعد تحولها الديموقراطي. وكيفية تعاطي الأدباء مع الحالتين، وذلك باستعراض مسار الأدب في رومانيا.
لم ينقل إلى اللغات التي نعرفها، ما يبرز القيمة الحقيقية للأدب الروماني المعاصر، رغم اقتناعنا باستناده على تاريخ من الملاحم والمخطوطات المحفوظة في الكاتدرائيات والأغاني والروايات المحكية.
وعدم ظهور كاتب في رومانيا تسوّق له عشرات الملايين من النسخ ويقرأه العالم كله ليس بالمقياس الفني، بالنظر إلى أن هذا النوع من الكتاب أصبح نادرا في المنظومة الأدبية الكونية الآن (يوجين يونسكو وتريستيان تازار وقسطنطين جورجيو استثناء الطفرة التاريخية).
في كل الأحوال، هناك مراجع مهمة ونادرة يمكن الاطلاع عليها لدراسة هذا الموضوع مثل: بيوغرافيا الأدب الروماني المعاصر 1994، كتب العقد 2003، ومجلدين عن الأدب الروماني المعاصر لأيون سيموت 2007، جامعة أوراديا، وبانوراما الأدب الروماني المعاصر 2008 (ألف صفحة بتحرير إيرين بيتراس)، والعديد من كتب الشعر والرواية والنثر والنقد التي يمكن تحميلها من مواقع مختلفة.
أصول الأدب الروماني
تعود أصول الأدب الروماني إلى النصوص الدينية للكنيسة الأرثوذكسية الشرقية والأسفار والترجمات عن اليونانية والجهود المبكرة لنشر الإنجيل، الذي لم ينشر بالكامل في رومانيا لغاية نهاية القرن السابع عشر.
ومن الآثار الأدبية الأولى كتاب عن تاريخ مولدافيا ورومانيا لميرون كوستن ومشاهد عن الإمبراطورية العثمانية، التي لم تسمح بتطور الأدب الروماني، رغم ظهور أغاني الحب للشاعر أليسي فاكارسكي، التي كان تأثير الثقافة اليونانية جليا فيها، كما أثرت في الكتابات اللاحقة لجورجي أساشي ودينيس غولسي.
وكتطور طبيعي بدأت الأفكار الثورية تبزغ لدى الكتاب الرومانيين الذين يرزحون تحت الحكم الأجنبي، وخاصة خلال ثورتي 1821 و1848، التي أثمرت ظهور حركات تطالب بتعزيز انتشار الثقافة اللاتينية والبحث عن أصول اللغة الرومانية، مما ساعد ذلك على تلقي العديد من الرومانيين تعليمهم في فرنسا وإيطاليا وألمانيا، وكذلك فتح مدارس اللغة والأدب داخل رومانيا التي ظهرت أول مجلة تعنى بلغتها، ومن ثم تم إنشاء المسرح الوطني في بوخارست، مع بروز شعراء غنائيين وكتاب نثر مثل فاسيلي الكساندري وميهاي إيمينيسكي.
العصر الذهبي
شهد الأدب الروماني عصره الذهبي، بعد توحيد البلاد عام 1918، حيث تطورت الرواية بداية من «راسكولا» لفيو ريبراني التي نشرها عام 1932 مستوحاة من ثورة 1907 للفلاحين، و«حفلة باخ» لكميل بيتريسكو، و«آخر ليلة حب، أول ليلة حرب» لجورج كالينيسكي، وهو مسرحي وشاعر وناقد ومؤرخ وروائي.
كما يسجل تاريخ الأدب الروماني مساهمات في الرواية الواقعية لميخائيل سادوفيني الذي ركز على تاريخ مولدافيا، والأهم منه في هذه المدرسة تيودور أرغيزي الذي يقال انه خلق ركائز جديدة للقصيدة الرومانية الحديثة.
بعد الحرب
ينظر النقد الأدبي على ان مارين بريدا، أهم روائي روماني، ظهر بعد الحرب العالمية الثانية، وخاصة رواية «الأسرة» التي يتناول فيها حياة ومصاعب عائلة فلاحية في مرحلة ما قبل الحرب، وفي وقت لاحق بعد الحقبة الشيوعية في رومانيا.
كذلك استقبلت القصص القصيرة لمايك أورومبسي بحفاوة في منطقة البلقان ورومانيا.
ومن الشعراء البارزين في هذه المرحلة نيكيتا ستانيسكي ومارين سورسكي وآنا بلاندينا وستيفان أوغستين وليونيد ديموف.
وفي ظل تشاوتشيسكو ونظامه الذي حكم رومانيا في الفترة 1989/1965 مورس ضغط قوي على الكتاب الرومانيين في الداخل، مما أجبرهم على اختيار المنفى.
أدب الخاسرين
علاوة على ذلك، فإن حال انتشار الكتاب وتداوله في زماننا، لا يعطي إلا صورة مقلوبة لحشود تندفع نحو الضعيف والسطحي والسهل، وتنفر من الأكثر ذكاء والمفتوح بلا حدود، مما يجعل ميزان «القيمة العادلة» مقلوبا بدوره.
وحتى من خلال تجوالنا في مكتبات العالم، لم نجد في أرففها البراقة والواطئة منها والعالية ما يعبر عن «أدب الخاسرين»، أولئك الذين ترفعوا عن إنتاج أدب الاستهلاك الرخيص والبسيط والمستعجل.
ولكي نترك السخرية جانبا، فإن حرجا لا يستهان به، سيطول كل من ينبش في الأعمال المجهولة، وتلك التي لا يتحدث عنها أحد، والكتاب الذين لا يقيمون الحملات لإضاءة أسمائهم وترويع عقدهم أكثر فأكثر ومن يلجأ للطرق المتواضعة جدا للدعاية لنفسه.
ومع ذلك، ظهر في رومانيا في العقود الأخيرة ما لا يقل عن عشرة أدباء يملكون قيمة حقيقية ومعظمهم من الشباب، تتصدر عناوينهم مكتبات بوخارست وملتقياتها الأدبية، لا سيما رازفان رادولسكي الذي تميز برواياته الباطنية وغموضه الجذاب، مما دفع نحوه دور النشر الألمانية والإنكليزية والفرنسية والإسبانية، وحاز على جوائز أدبية.
أدب المنشقين
بعد عام 1989 تحدثت الصحافة والمجلات الأدبية الرومانية كثيرا عن كتابها المهاجرين الذين تركزوا في ألمانيا، والذين أسسوا ما أطلق عليه أوقات نظام تشاوتشيسكو «أدب المنشقين».
وهو الموضوع المفضل بلا شك، لمن يريد متابعة تطور الأدب الروماني بعد سقوط الأنظمة الشمولية والاطلاع على «جماليات المعارضة»، وسلطة الرموز المتقنة التي أخذت مساحة واسعة من أعمالهم.
وإذ نعتمد على تحليل كورينا بتريسكو، نجدها سلطت في أبحاث عديدة «مزايا وعيوب» الأدب الروماني في الفترة ما بين الحربين العالميتين، وكذلك تطور أدب المهجر حسب مراحل كل مأساة داهمت البلاد.
لقد قدمت بتريسكو أوراق بحث جدا مهمة عن الأدب الألماني في رومانيا أيضا ونشرتها في مجلة جامعة هاينريش هاينه ــ دوسلدورف وجامعتي جورجيا وفيينا.
أدب المقاومة
تنتهي الحرب وتبدأ الدكتاتورية كمكافأة للأدب المقاوم، الذي برز في الأعوام الرومانية القاسية (1989/1948)، لتظهر منه رائعة كونستانتين جيورجيو «الساعة الخامسة والعشرون»، وروايات رأت النور فيما بعد مثل «ليلة منتصف الصيف» لميرسيا إليادي.
وبطبيعة الحالة كان التوجه للالتزام بـ«الواقعية الاشتراكية» أسلوب رقابي لما ينشر، وكانت الأحكام على أساس هذه المدرسة ولا تتبع لسيادة المعايير الجمالية.
وفي هذا الاطار، يمكن إعادة تقييم أعمال نيكولاي بريبان ورادو بيتريسكو وأوكتافيان وأوغسطين بيزورا.
الأدب الألماني في رومانيا
يبدو ان الأدب الألماني في رومانيا حلقة معاكسة لأدب المهجر، فاليهود الألمان وحتى الألمان من غير اليهود هاجروا إلى رومانيا هربا من النازية، واستمرت كتابة الفارين من الجحيم الألماني بالنمو، ويمكن ملاحظة هذا الأمر ليس في تاريخ الأدب الألماني فحسب، بل في السوق أيضا، كما أشار لوكا هولدن إلى التمييز والتهميش الذي تعرض له المهاجرون في رومانيا سواء من أقرانهم أو النقاد على حد سواء.
ثورة البنات
من ناحية أخرى، بدأ أدب المهجر (من وإلى رومانيا) يأخذ مكانه بثبات في الآداب الكبرى في أوربا الغربية، وكان فوز هيرتا ميللر بجائزة نوبل تتويجا للتعددية الثقافية، وبمنزلة اعتذار للتجاهل الذي تعرضت له «الأقلية الألمانية» في الأدب الروماني، وانتصارا لمحاربي قمع الأنظمة الشمولية، ويمكن الاطلاع على استعراض بمنتهى القيمة لتانيا بيكر من جامعة تيميشوارا بوليتكنيكا حول النساء المهاجرات إلى رومانيا (وبالعكس)، اللائي تميزن في الفضاء المختلط وطرحهن المفاهيم الرومانية بسياق ألماني، بالإضافة إلى ميللر نجد: اليزابيث بوشاني وفرانشيسكا بانسي وايغينالد شالتنر وغابرييلا ميلونسكي التي عملت في إذاعة أوربا الحرة.

تأسيس الدادائية
لقد نشأت هذه الحركة الثورية العدمية الفنية بفضل تريستان تزارا المولود في رومانيا، وهو شاعر وكاتب، تخلى عنها في وقت لاحق لحساب السريالية ومن بعدها الماركسية.
ولعل تزارا شيد أمتن حلقة وصل بين الثقافة الرومانية والغربية ونقلها بمفهومنا المعاصر إلى «العالمية»، وساهم بعمق ونشاط في وضع الدادائية والسريالية في طليعة الحركات الثورية للحداثة.

النقد الأدبي
تميز العمل الضخم للبروفيسور نيكولاي مانوليسي، الذي تناول فيه تجاربه في الحياة والقراءة وصدر عام 2000، واعتبر من أهم ما صدر في مجال النقد الأدبي، فيما عدّه آخرون بيانا عن الحياة الثقافية الرومانية في القرن العشرين.
كما تميز نقاد شباب مثل الكسندر ستانسكي ودانيال إيناش ونيكولاي إيونا ودانيللا زيكا وسيسليا ستيفانسكي وكثيرون جدا.

الثقافة بعد انهيار الأنظمة الشمولية (3)



الأدب البولندي


إحدى مشكلات الأنظمة الشمولية والاستبدادية الأكثر خطورة هي عدم اعترافها بأن الثقافة اختيار إنساني حر ومفتوح على جميع التساؤلات، ومن ثم فإن هذه الأنظمة في إطار قمعها للفرد تعمد إلى إشاعة ثقافة تعبوية أقرب إلى الدعاية للنظام وأفكاره، وهكذا لا تنتج إلا أدبا وثقافة هزيلة، يعزف عنها الجمهور، وتدريجيا يفقد الثقة في مصادره الثقافية، وربما الثقافة ذاتها باعتبارها رديفا للزيف والدعاية المقنّعة، كما يدفع بالمثقفين الجادين إلى الانزواء، أو الهروب خارج أوطانهم للتعبير عن آرائهم بحرية أكبر. في حلقتين سابقتين تناولت القبس تحولات الثقافة والأدب في ظل الأنظمة الشمولية، متناولة الأدبين الروسي والتشيكي. وهي اليوم تقدم صورة عنها الأدب البولندي قبل وبعد سيطرة الحكم الشمولي. الأدب البولندي غني ومتنوع، لعله الأقوى في الشعر، لكنه معروف قليلا في العالم وخارج حدود بولندا. أي كان يتحدث عن السوريالية الفرنسية، وفي أي مكان، بينما لا يتحدث عن «الشاعرية البولندية» سوى بعض المتخصصين. ربما يرجع السبب في ذلك إلى أن الأدب البولندي كان عليه في تطوره التاريخي أن ينهض بمهمات عديدة، وأدوار متعددة،: وطني، جدلي، ثوري، نهضوي، تنويري، إضافة إلى الجمالي،. وحيثما كان على الأدب في بلدان أخرى أن يقوم بهذه الأدوار، فغالبا ما كان ذلك على حساب الفن.
إن الأدب البولندي، خاصة الشعر، سر عظيم، لكن معرفة العالم به ونحن العرب، قليلة جدا ومحدودة للغاية، مع أنه كان دائما جزءا لا يتجزأ من شخصية الشعب البولندي وكفاحه. المراحل الأولى من الأدب البولندي المعاصر مثيرة للجدل وفقا لبعض النقاد ومؤرخي الأدب مثل بيتر كونتسيفيتش الذي حسبها منذ استعادة استقلال بولندا عام 1918، مرورا بالحرب عام 1939، ولكن معظم المتخصصين يعتبرون نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945هي المرحلة الرئيسية للأدب البولندي المعاصر، رغم أنه لم يكن موحدا، ويعكس الحالة السياسية في البلاد بعد الحرب التي خضعت لتحولات كثيرة وأثرت في خصائصه، لاسيما فترة «الجدار الحديدي» الممتدة من 1945لغاية سنة التحولات الكبرى في عام 1989 التي شملت الأدب البولندي المحلي وفي المهجر।
الإطار الزمني حسب أعراف تاريخ الأدب، فإن العصر البولندي حددته لحظات حاسمة في تاريخ العالم: الأولى بداية الحرب سبتمبر 1939 وسقوط الشيوعية يونيو 1989. ولعل الأدب البولندي تأثر كثيرا بعامل التاريخ والسياسية، ويمكن ملاحظة هذا التأثير بالتنوع الفكري والفني الغني بالتجارب والانجازات، فالأديب البولندي، في الداخل أو الخارج، فوجئ باحتلال بلاده من قبل قوات الرايخ الثالث الألمانية ومن بعدها الاتحاد السوفيتي. لذلك حلّقت القصائد المكتوبة من وراء الأسلاك الشائكة لمعسكرات أسرى الحرب، وبدأت الحياة الأدبية تحفر التربة لكي تخوض المعركة من تحت الأرض. وكتبت أعمال روائية وشعرية مهمة ومثيرة خلال الحرب: «على انهار بابل» لفلاديسلاف برونيفسكي، «دم كامل في الفم» لتيودور بوجينسكي، «الصديق» لكريستوف بازجينسكي، «غناء الجدران»، «رابسودي في وارسو» لتاديوش غاجزو، «الصدأ» لجسيش زوكروفسكي، «الحمام» تاديوش كفاتكوفسكي، «سرب 303» لأركادي فيدلر. وكانت تنشر في المجلة الكاثوليكية، «الشباب والحقيقة» التي تطبع وتوزع في السر. والغريب أن حرب 1939 أطلقت سراح العديد من المجموعات الشعرية مثل: «في ذروة الطريق» لكازيميرز فيرزجينسكي، «صلاة من أجل وارسو» لتيودور بوجينسكي، «الوطن» لجون برزشفاو، «الاتهام» لجورج بيتركيسز وغيرها. ما بعد الحرب: واقعية اشتراكية لم يختف «أدب الحرب» بانتهائها، واستمر في مدى الآثار المترتبة على الاحتلال، وما جرى في معسكرات الاعتقال النازية ومن بعدها السوفيتية. وكانت حافزا لكتابة القصص والمذكرات مثل «الأنواط» لصوفيا نالكوفسكيا والمجموعة القصصية «عالم آخر» لتاديوش بوروفسكي. ويمكن تصور تأثير النظام الشمولي على الأدب والثقافة عموما، حينما يقرر مؤتمر الكتاب البولنديين في يناير 1949، ما أطلق عليه النقد السوفيتي {الواقعية الاشتراكية» (الطريف قرره المكتب السياسي لاتحاد الجمهوريات السوفيتية عام 1934)، نموذجا وهداية وأساس الأدب الذي ينبغي أن يكتب في بولندا. بعبارة أخرى، أسس النظام الشمولي «الطريقة الخلاقة» كما يسمونها، المسار الذي على المبدعين عدم الخروج عنه، والأقمع من ذلك، شيدوا له أطرا حقوقية وسلطة القانون ابتداء من الرواية، الفيلم، اللوحة، القصيدة .. لغاية الملصق الإعلاني. وهكذا ارتبطت «المعتقدات الشيوعية» في أعمال أدبية هزيلة توصيك بعدم التأخر عن الدوام، وتوطيد العلاقة العاطفية بين الشغيلة وارتباط الإنسان بآلته أكثر من أمه الخ، من مهازل هذه المدرسة السوفيتية التي أزعجت التاريخ الأدبي لأكثر من 70 سنة. وهكذا ظهرت بناء عليها أعمال مثل «البناء» لألكسندر سكيبرو و»فحم» لكازميرز براندوز و «المواطنين» لإيغور نيفورلي، وعندما لم يجد تاديوش بوروفسكي مكانا له في الموجة الجديدة لهذا الأدب انتحر عام 1951.
اختراق أكتوبر

وأدى وفاة الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين إلى ما أسماه مؤرخو الأدب البولندي بداية مرحلة «ذوبان الجليد» التي افتتحتها سلسلة من التغييرات السياسية، ولوحظت العلامات الأولى من «"تخفيف القمع»، بما في ذلك المحاولات المبكرة والخجولة لانتقاد النظام الشمولي وتوابعه كالرقابة والاعتقال والتهميش و»استبعاد العقل لاستبعاده» وغيرها من الأساليب.
لكن ذروة التصدي لهذا النظام كانت في عام 1956 عندما عقد المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السوفياتي بزعامة الاصلاحي نيكيتا خورتشوف الشهير الذي كشف «جرائم الحقبة الستالينية» أو ما أطلقوا عليه «اختراق أكتوبر» وما صاحبها من تغييرات كبيرة في قيادة النظام الحاكم في بولندا وانتفاضة بوزان التي كانت استجابة لانتفاضة بودابست المجرية. أدت هذه التغييرات إلى ظهور أعمال أكثر جرأة مثل «الظلام يخفي الأرض» لجيرزي أندرزيجيفسكي و «صعود» لآفاسكفسيز و «قصيدة البالغين» لآدم فازوك و «أم الملوك» لكازميرز براندوز متضمنة السخرية والبشاعة لمرحلة القمع الستاليني. ولأول مرة بدأ شعراء كانوا مطمورين تحت الأرض بالظهور في جلسات يحضرها جمهور غفير مثل أندريه بورسا وستانيسلاف غروتشوفسكي وتاديوش نوفاك والكتاب مارك هلاسكو وفلاديمير أووجيفسكي وأدوارد ستاشير ومسرحيين وتشكيليين ومطربين آخرين. شرارة 1968 تحولات «الاستقرار الصغير» لم تمنع اقتناص الحرية التي تحب المبدعين وكانت مجرد حلم يكتبونه لغاية اندلاع احتجاجات 1967 – 1968 (أثبتت فيما بعد أنها كانت مصيرية، لاسيما في تشيكوسلوفاكيا - مارس 1968) والتدخل المباشر لقوات حلف وارسو لقمعها. ولعل عرض الجزء الثالث من «الأسلاف» بإخراج كازيميرز ديجميك في المسرح الوطني في وارسو – نوفمبر 1967 وإلغاء العرض من قبل الرقابة، فجر الأوساط الثقافية والأكاديمية وانتقل رفضهم إلى الشعب الذي خرج في تظاهرات عارمة أدت إلى الاعتقال وفصل الموظفين وطرد الطلاب من الجامعات ونفي الشعراء: ستانيسلاف بارانزيسكي وزبيغنيو هيربرت وريزارد كرونسكي وآدم زاغاجيفسكي.
المواجهة 1976 – 1989
خلال هذه الفترة، ظهر العديد من المجلات المستقلة الخارجة عن سيطرة مؤسسة الإعلام والثقافة الرسمية ( مجلات «سجل» و و«فجر» على سبيل المثال) وطبعت في الخفاء ووزعت بالسرّ ، وتبنت «الموجة الجديدة» المضادة للشيوعية ونشرت مجموعات شعرية كانت مخزنة في الأدراج مثل «أنا أعلم أنه من الخطأ» لستانيسلاف بارانسكي – 1977 و «ثلاثية التعب» لتاديش كانوفسكي – 1980 و «نهاية العالم» و «ابدأ» لأندرو سزوبيرسكي. ومع الحركة الشعبية والثورة التي قادتها «نقابة التضامن» وإعلان الأحكام العرفية (1981-1983)، انبثقت المجموعات الشعرية من تحت الأرض وخاصة «أتلانتيس وقصائد أخرى» لستانيسلاف بارانزسكي – 1981 و «تقرير عن المدينة المحاصرة» 1985 لمجموعة من الشعراء ذكرنا أغلبهم في السياق. وبرز جيل الشباب من الشعراء الذين تمحوروا حول مجلة «مشروع» وتماشوا مع روح ما بعد الحداثة الغربية والأدب الذي مثلته «مدرسة نيويورك»، منهم: مارتن سفيتلسكي وروبرت تيكيلي وجاسيك بودسيالدو وجيرزي بيليتش وبول هيلي.
أدب المنفى

قضى الكثير من الأدباء والكتاب البولنديين سنوات الحرب العالمية وبعض الحقبة الشيوعية في المنفى. وكانت باريس مركز الهجرة الأدبية البولندية منذ عام 1940. وأصدروا هناك مجلة «ثقافة» مثل غوستاف غرودزينسكي الذي ألف كتابا من الأدب الوثائقي عالم آخر (مستندا على وثائق سوفيتية) و رواية «برج». كما نشر تشيسلاف ميلوش مجموعتيه الشعرية «اسرة أوربا» و«وادي عيسى» و«الذين ظلموا رجلا بسيطا» وحصل على جائزة نوبل عام 1980. وكبادرة ومظهر من مظاهر دعمه لنقابة «التضامن» زار بولندا في يونيو 1981 واستقبله بحماس كبير في وارسو كراكوف وغدانسك ، حيث حصل على دكتوراه فخرية من الجامعة الكاثوليكية في لوبلان.
مدارس وتيارات

الاستقرار الصغير: وهذا المصطلح الأقرب من أن يكون سياسيا، دخل في تاريخ النقد البولندي حينما وصف به الحالة بعد عام 1956 لأول مرة تاديوش روزيفسكي حينما قال: «لدينا القليل من الاستقرار فلننشىء عليه الأدب»، وبدأت حالات انتقاد مظاهر الفساد والرشوة لدى السلطة والمجتمع الشيوعي.
* الوجودية البولندية: وبتأثير ظهورها في فرنسا، نشأ التيار الرئيسي للوجودية (على غرار البير كامو) على يد غومبروفسحكي وكازمير براندوز . * الكلاسيكية المعاصرة: دعا أنصار هذه المدرسة التقليدية إلى احترام «القيم الخالدة» في الأدب والفن. وأرادوا أن تبقى «الأغاني الكلاسيكية» على قيد الحياة وكذلك النسيج المتوارث في اللغة الشعرية و «ضبط النفس» في التعبير عن المشاعر ووضع مسافة للسخرية، وتميز فيها فيتسلاف ميلوش ويسلاوا زيمبروسكيا.
خصائص أدب المهجر

تميز بالمأساوية والتشاؤم الذي يطبع عادة الأدب الذي يتناول الكوارث عن بعد. فضلا عن البلاغة التي يهواها من يتأمل مستقبل بلاده. كما في المجموعة التي أصدرها تسعة شعراء بولنديين في اسكتلندا عام 1941 ومجموعة قصائد صدرت عام 1944وهي تجارب لجنود بولنديين نشرت في مجلة آسيا افريقيا وتضمنت نصوصا لماريان هيمار و آرثر ميدزورزسكي وستانيسلاف ملودوزينيس، ومختارات شعرية وأغاني من الجبهة الإيطالية تحت عنوان «الخشخاش الأحمر في مونتي كاسينو» صدرت في روما 1945 وفيها أشعار فلاديسلاف برونيفسكي وأغاني لفيليكس كونارسكي ومجموعات شعرية منفصلة لجوليان كازيميرز وتوفيم فيرزينسكي.
أما النثر فقد كان نشاطه أقل، فصدرت في لندن 1934رواية «مفاتيح» لماريا كونسيفسكوفا وفي القدس 1943 رواية «النسور» لثيودور بارينسكي و «الطريق إلى نارفيك» في لندن 1941 لكزافييه بروسزكونزكي، «السرب» في لندن 1942 لأركادر فيدلر وكذلك «من موسكو إلى موسكو» – لندن 1944 ورواية «الوقت الاحتياطي» – لندن 1945لماريانا سزوشنوفسكوفا و ثلاثة أجزاء عن الحرب لملكيور فانكوفسز: « بوخارست 1940» و «درب سبتمبر» و «معركة مونتي كاسينو».

الثقافة بعد انهيار الأنظمة الشمولية (2)



مفارقات الأدب التشيكي

تظل الثقافة مكبلة بالخوف والسرية تحت طائلة الأنظمة القمعية والشمولية، وتكتسب معنى وحضوراً نخبوياً لدى قلة تبحث عن الكتاب المهرب، وتهمس بالأفكار المسربة عبر الحدود عن العالم الآخر المختلف، سواء المطمور والمسكوت عنه، أو القادم من عوالم تتمتع بحرية وتطور أكبر. هذا ما عانته الثقافة في محيط دول شرق أوربا وروسيا وغيرها، وما زالت تعانيه الثقافة في الوطن العربي تحت أسماء أخرى لا تلجأ إلى القمع المباشر للفكر وإنما تقوم بذلك تحت اسم الحفاظ على الهوية، أو الحفاظ على المجتمع من الغزو الثقافي، وغير ذلك من الأسماء. والقبس تستكمل في ضوء ما يشهده العالم العربي من ثورات وانتفاضات، مسار الأدب والثقافة في الدول التي عانت من الحكم الشمولي قبل انتفاضاتها الديموقراطية وبعدها، بعد ان قدمت صورة للأدب الروسي في حلقة سابقة تتناول هذه المرة الأدب التشيكي.
بعد حركة التغيير التي شهدتها براغ، والمدن التشيكية الأخرى التي يسمونها «ثورة نوفمبر 1989»، وهي الثورة المخملية التي اطاحت بالنظام الشيوعي، بدأ التطور السلس للحياة الادبية وبشكل طبيعي، واستعاضوا عن اتحاد الأدباء التشيك المؤسس في الحقبة الشمولية بجمعية الكتاب، وسرعان ما ظهر العشرات من الناشرين الجدد، وبدأ القراء يتلقفون العناوين الكثيرة للكتاب الممنوعين في المنفى، مثل بيتر ساباش، وايفان بلوتني، وايفان مارتن جيرويس، وجاشوم توبل، وميلوش اربان، وباتريك اردينك، وبيترا هولوفا وآخرين.
موجز تاريخي
اذا كان مؤرخو الادب، يحددون القرن الحادي عشر منطلقا للادب التشيكي، وعام 1468 نشر اول كتاب مطبوع، فان القرنين السابع عشر، والثامن عشر شهدا بطشا حقيقيا للكتب التشيكية الكلاسيكية، بعد استيلاء السلالة الهابسبورغية الاقطاعية والرجعية التي ارادت نشر اللغة اللاتينية، فيما بقيت التشيكية مقتصرة على «الادب الشفوي»، لغاية القرن التاسع عشر، وحيث طور اللغة الادبية مصلحون كبار، وعلماء لغة واجتماع متبحرون، مثل جوزيف دوبروفسكي وجان هوس، ويغان اموس كومنسكي، وعبروا بها من حدود لغة المحليين الى آفاق اوسع، ومن ثم وظفها فاتسلان هانكا في القرن التاسع عشر بثورته الاحيائية، وفتح الطريق الى كولار وشيلاكوفسكي وايدي بوزينمكوفا، والوا جيراسك ويارسولاف فرتشليكي، وبيتر بزورك، وكاريل كابك، وغنيفكوفسكي، وغيرهم الذين ساعدوا على انتشار الادب التشيكي عالميا، لغاية الحربين العالميتين، وادخال تشيكوسلوفاكيا في المنظومة الاشتراكية بالقوة، الامر الذي ادى الى تراجع الادب، واختفاء الادباء او هروبهم.
قبل 1989
تميزت هذه المرحلة بعدم الثقة بالنظام، والركود في الادبيات الرسمية، وازدياد الكتاب الممنوعين.
لكن عام 1989 شَهد سقوط الحواجز، ليس السياسية فحسب، بل النفسية، فقد كان انصار «ما بعد الحداثة» يكرّسون اعمالهم في الرواية والمسرح (منطقة الشفق) والاغاني واليوميات والمذكرات والرسائل، وبدأت الكلمة تسمع صداها بين الناس.
بموازاة ذلك، تعددت وسائل النشر باختفاء السيطرة و«المركزية» للنظام، ولا بد من الاشارة الى ان جمهورية التشيك لم تشهد حالات الفوضى المعروفة في الدول التي تغيّر انظمتها، وكانت تصحح التشوهات التي احدثتها المنظومة الشمولية بهدوء.
لكن، استمرت مشكلة فقدان الادب تأثيره في المجتمع والحياة عموما، ولم تستطع الآداب الشعبية سد الهوة التي حصلت لعقود.. وكان الاحساس بالمعاناة اشد لدى شعب فضل دائما الابداع بكل فروعه على السياسة، ويعرف مبدعيه ومفكريه وفنانيه، اكثر بما لا يقاس من معرفته بالسياسيين واسمائهم.
وربما ساعد رفع الحظر واختفاء الرقابة عن النشر والعرض والبث، الى ظهور انواع جديدة لم يهتم لها الادب التشيكي سابقا مثل القصص البوليسية والجنسية والخيال العلمي.
المفارقات الكبرى
لا يشك احد في أن كل شيء في الدول الشمولية التي تغيرت بحاجة الى اعادة تعريف بفضل «القضايا الجديدة»، و«انهيار التقاليد». ولا بأس ان نقول ان اعادة التعريف ستستند الى «الحالة صفر».
فما الذي ميّز «الحالة صفر» في الادب والابداع التشيكي المعاصر؟
برأينا، ان اهم ما في الحياة الجديدة بعد سقوط الانظمة الدكتاتورية هو «سقوطها»، بمعنى ادق «اختفاء العدو» الرئيسي للابداع.
فالانظمة الشمولية هي اكبر مفارقة في الادب، وهذه المفارقة فُقدت وفُقد معها ما يمكن ان نسميه «مفارقة الحقيقة» (التي يدعي الادب انه يتبنى كشفها).
ما بعد 1989
وبحلول مرحلة ما بعد 1989 كان الادب في امس الحاجة الى من يسد الفجوة، فظهر من يكتب عن حلم الخلود مثل ايفان سلافيك في «سنوات الجبل» والعودة الى التاريخ في اعمال آنا فرانك.
كما الاسطوانات التي كانت تعيدها على الاسماع ماشا ديفيس، والروايات المنقمة بالافكار والاسلوب والمعتمدة على السيرة الذاتية في «شتاين» لأليس توكالسوف والاصرار على الادب كرسالة في «عزيزي السيد كولار - 1994» لفاسيلكوفا وروايات مثل: «سرير احمر ــ 1999»، «يوميات مدير ــ 1995» و«الطيور على الاسلاك ــ 1998»، و«سنة رائعة ــ 1995» والورق الكثير الذي طبعت عليه سير الشخصيات التي كانت ممنوعة والمقابلات والشهادات عن العصر المغلق.
التحدي
ان التحدي الاكبر الذي واجه الادباء التشيك المعاصرين بقاء فرانز كافكا الاسطوري في «معنى» ما يسمى «الاعمال الكبيرة»، وارتباط ذلك في ما يمكن ان يقدمونه في «مرحلة ما بعد الحداثة».
فالادباء التشيك حرموا من «رواية كبيرة»، كما انهم وجدوا انفسهم بمواجهة عالم متعدد الثقافات، ومصادر مختلفة، ووجهات نظر متنوعة، بما فيها تنوع الاسلوب وطرق غير مجربة في الاستشهادات والمرح والوضوح والقراءة المزدوجة للنص وثقافة البوب والحالات الغريبة وألعاب اللغة والانحراف والعنف والتفكير الآخر والتكامل لغاية الاقتراب من المقال، وثمة من أعاد صياغة «موضوع المدينة» («المدينة المروعة» لهالوفا و«المدينة التوأم» لأجفار).
هناك من عاد الى عالم الحيوانات، الى تنين كومودو والنسر مثل رواية «الدب» لكراتوشفيل وكرر الزخارف الحيوانية في الاساطير والصراع بين الخير والشر.
ولا يمكن اغفال دور «القصص اليومية» التي تبحث في موضوعات أزمة منتصف العمر والمال والعلاقات العابرة مع النساء والحانات والعزلة وفقدان العائلة والاكتئاب الطفيف.
ومن الضروري التوقف عند عمل ياروسلاف روديس «الجنة تحت برلين»، وأعمال فاتسلاف «بيتر الأحدب» عن المجد الضائع للبطريركية واستثناءات جون بالابان ومداعيات اوسترافا مع مفارقات الحياة اليومية.
لقد تميز المعاصرون التشيك في طرح اكثر مواضيع الأدب دقة في اعمالهم: الوهم، الكمال، الانحطاط، الاباحية الفردية، الخرافة، التدمير الذاتي، الى جانب النسوية المتطرفة عند هولوفا والأسرة باعتبارها «مصدرا للصدمة» لدى برابوسوفا وقصص الفتيات لبلاتزوفا وتجريب ديفيد زابرانسكي الجريء.
أدباء المنفى
الى جانب هذا فهناك العديد من الكتاب التشيك، الذين اختاروا في الأوقات الشمولية العيش في المنفى مثل الأكثر شهرة ميلان كونديرا الذي انزوى في فرنسا واصبح فرنسيا ويكتب بالفرنسية، وباتريك أوريدنك والشاعرة والروائية فير لينارتوفا والكاتب المسرحي بافيل كوهي والشاعر والروائي جورج غروس الذي كان سفيرا لجمهورية التشيك في النمسا واستقال من منصبه بعد ان اصبح رئيسا لنادي القلم الدولي.
ومنذ عام 1969 كان الشاعر ايفان ديفين يعيش في ميونخ ويعمل في اذاعة اوروبا الحرة، كما الشاعر انتوني سرمغور الاستاذ المشارك للغة والأدب التشيكي في جامعة هامبورغ، وأطول منه عاش في المانيا فلاتسميل تريسينك، فيما تنقل لين براغ وهامبورغ الفنان والشاعر شارل ترنكويتز.
وتقيم في اسبانيا الكاتبة والمترجمة مونيكا زغوتسوفا وفي انكلترا الشاعر والكاتب ايفان بلوتني وفي روما استقر الناقد ريختر سيلفيا.
واستقر الكاتب جوزيف سكوفورسكي في تورنتو الكندية والشاعر ايفان شينروفر اختار الولايات المتحدة وهاجر الى اسرائيل حتى توفي فيها عام 2006 الكاتب والمترجم فيكتور فيشل.
النجم اللامع
حاليا يبرز ميشيل فييخ الحائز على جائزة الدولة للآداب ويواكيم وبيتر اميل وهاكل هولفا ولينكا رينيروفا وغيرهم.
غير ان فييخ المولود في براغ عام 1962 يعتبر الأشهر وكتبه الأكثر مبيعا وترجمت مؤلفاته الى اكثر من 20 لغة، على الرغم من ان النقاد يتهمونه بالسطحية والابتذال الذي يجذب العامة.
ومع ذلك رشح لجائزة «ايمباك» الادبية الدولية في دبلن وفي عام 2005 حاز جائزة «مغنيسيا» الأدبية. وقرأ شعره في المانيا والنمسا وفرنسا وبريطانيا واسبانيا والدانمرك وحتى في تايوان.
كتب عن صديقاته في «يوميات 2005» قبل ان تضبط حياته زوجته الثانية فيرونيكا بابنتان سارة وبار.
بدأ النشر مباشرة بعد التغيير عام 1990برواية بوليسية، تلتها سيرة ذاتية 1992حولها بيتر نيكولاييف الى فيلم سينمائي عام 1997، ومن ثم تلاحقت رواياته التي كانت تحول الى السينما مباشرة.

كيف ستكون حال الثقافة مع انتهاء الأنظمة الشمولية؟ 1

الأدب الروسي عاد عالميا فنيا وتجاريا

عامل مشترك جديد يتكون بين دول أوروبا الشرقية والدول العربية.. الأولى أسقطت الأنظمة الشمولية تباعا، ودولنا في طور إسقاط أنظمتها المشابهة (سقطت في تونس ومصر.. والنظام الشمولي لمعمر القذافي يتهاوى وكذلك نظيره في صنعاء)، أو هكذا تأمل شعوبنا، وتتمنى من مثقفينا أن يكون لهم دور في التغيرات الكبيرة التي تحصل، رغم أن كثيرين لم يكونوا طليعة حركة التاريخ، بل ملحقا بالاستبداد وبوقا له.
وسيكون الأفضل، لو أحد ما طرح السؤال: ماذا سيكون حال الأدب مع انتهاء الأنظمة الشمولية أو أكثر تحديدا، كيف تطور الأدب؟
لا حاجة للإثبات، إن الأدب، كغيره من مكونات الثقافة والابداع يزدهر في الحرية، ولو عاش سيرغي يسينين أجواء ديموقراطية لما وجدناه مشنوقا في غرفته المتواضعة في شارع أربات، ولما مات الشاعر فاليري خليبنكوف من الجوع، ولما تدهور الشعر الحديث بانعزال آنا أخماتوفا بعد اختفاء زوجها الشاعر والمسرحي غوميلوف، ولكان متسعا أكثر لأوسيب مندلشتامب لغرز الألم الحقيقي للنخبة الروسية، كما حاول بوريس باسترناك الذي منع من قبول جائزة نوبل.
فضائح الجدانوفية
لو لم تكن الأوضاع سائرة نحو «الجدانوفية»، ما كان شاعر وسيم مثل مايكوفسكي يضطر للانتحار، لولا العجلة الوحشية لما يسمونه «الأدب الملتزم بقضايا الشعب»، ما كانوا يسحقون ماريا تسفيتايفا ويجبرونها على خيار واحد متاح: الموت انتحارا.
كان بالامكان لميخائيل بولغاكوف ان يكتب أعمق من «المعلم ومارغريتا»، وكذلك جنكيز ايتماتوف ورسول حمزاتوف، لكن ماذا سيفعلون لو كان الزعيم خروتشوف يزعق في «فضيحة المانيج» ما ان يرى لوحة لمواطن سوفيتي ضعيف بجسد هش امامه قطعة خبز سوداء؟
ينبغي ان تمرح أخماتوفا في قصائدها حتى لا يصفها وزير الإعلام جدانوف بالعاهرة، وعلى تسفيتايفا تزيين أبياتها بمنجزات الثورة، اما خليبنكوف، ما كان عليه ان يعلم جوزيف برودسكي مبتدأ المعاناة وانتهاء الألم.
سيكون الأدب أفضل بالتأكيد، بل سيكون أدبا حينما يمنح الإنسان الحرية وليس مجرد كتب تحوي نصوصا مؤلفة لغرض ما تستوعب الحد الادنى من قيمتها الفنية، كما في السلسلة الغبية للأدب السوفيتي روايات وقصص من «أجل وطنهم السوفيتي»، إلى آخره من الأعمال الموجهة.
المكتبة الحقيقية
ستكون المكتبة أفضل، لانها ستترجم المؤلفات الجيدة والعميقة والصادقة، وسيبتعد الرقيب عن التلاعب بالترجمة واختيار ما ينقل الى الشعب الذي يجهل هذه اللغة او تلك.
كنا في الاوقات السوفيتية في ضيم حقيقي، حينما نتجول في مكتبات موسكو ولا نجد ترجمات فرجينيا وولف وجيمس جويس ووليم فوكنر ومارسيل بروست وغابريل ماركيز وخورخي بورخيس وغيرهم كثيرون، من دون قراءتهم لا يستقيم ولا يستوي ضلع الاديب الواعد ولا يستطيع ان يدعي كتابة أمر جاد.
وكان من الصعب ظهور أجيال قوية في الأدب السوفيتي لم تطلع على ما انتجته المدارس في العالم في حقل الرواية الحديثة والشعر الجديد، فقد كانت القصائد أناشيد للثورة التي تحولت لتمجيد السلطة السوفيتية وخيالها الزائف في العالم السعيد للبشرية.
الاعتراف الدولي
وللانصاف، تنفس الادباء (وسواهم من المبدعين) منذ اطلاق آخر الزعماء السوفيت ميخائيل غورباتشوف ما عرف وقتها بالعلانية «غلاسنوست»، وحينذاك، ظهرت المذكرات والكتابات الصحفية والأدب الوثائقي والروايات المبكرة التي تميزت بغياب المحرمات وقيود الرقابة الأيدلوجية وظهور حرية التعبير وحقوق وامكانية النشر وتطوير الطباعة وتفعيل المجلات الادبية والمسابقات والجوائز على نحو مكثف، مما ساعد على عودة الأدب الروسي إلى «بورصة الأدب العالمي»، وكسبت مؤلفات فيكتور بيلوفن وفلاديمير سوروكين وبراغنيسكي وفايزمسكي وتروشكين وزادرنوف وأرباتوف وآخرين اعترافا عالميا مع مطلع تسعينات القرن المنصرم.
نجاح تجاري
وهكذا تغيرت الدنيا، بدلا من بحثنا عن الكتب المهربة والزيارات السرية التي كنا نقوم بها لاقبية بائعي الكتب المستعملة والقديمة من اجل العثور على رواية مستنسخة، دارت عجلة النشر وكنا نقف في الطوابير الطويلة من اجل الحصول على ابداعات بيلوفن وسوركين وارباتوف.
وبالطبع، مع تفوقها الفني ـ الجمالي، وضعت هذه المؤلفات أساس النجاح التجاري للمنشورات التي تلتها، واختفت الخشية لدى بيزنس النشر من الخسارة المالية.
في المقابل، كان الجمهور متعطش لقراءة الجديد، المحرض، الكاشف، حيث ملّ البلاغات السياسية المكتوبة في نصوص «أدبية».
الأديب كمعارض
ومع اختفاء الرقابة السوفيتية، جلبت روسيا معها متاعبها الاخرى: الفساد، الحرب القوقازية، سطوة الطغمة المالية والمافيا، المال السياسي في خدمة الحزب الحاكم، مخالفات الاجهزة الامنية.. الخ من «رذائل الديموقراطية».
هذا الحال، وضع الأديب الروسي في خندق المعارضة للنظام في روسيا، ومهما كان موهوبا في انتاج ادبي محايد، فان السلطة بدأت ــ لا سيما في حقبة فلاديمير بوتين ــ بمراقبة ما يلي شروطها، ما يمكن اغفاله، تجاهله او مضايقة كاتبه لغاية حصره بزاوية الخيارات المعتادة: التوقف عن النشر او الهجرة، كما حصل لفيكتور ايروفييف الذي هام بداية إلى ألمانيا ومنها تنقل في جميع انحاء اوروبا يعيش على كتابة الاعمدة الاسبوعية.
الشعر أصدق أنباء
بالتوازي، كل ما ذكرناه ينطبق على الشعر الروسي، فقد عانى على وجه الخصوص ديميتري بريغوف حتى وفاته، ومن الباقين الذين يعانون من التجاهل ليف روبنشتاين، كقارئ، لم اجد في قصائدهم شيئا خارجا عن المألوف، لكن احتفاء الغرب بهما، كونه يجهل روسيا، ولأنهما نقلا «غرائب» (بتصور النقد الغربي)، لذلك وجدا انفسهم بمشاركة غينادي آيجي ممثلين للشعر الروسي المعاصر.
وبحساب الأرقام، فلا يضير تاريخ النقد لو أضفنا إليهم أولغا سيداكوفا التي تكتب من ألمانيا وعرفت بفضل المترجمين الذين اختاروا نصوصها السهلة للترجمة، بينما تركوا القصائد العميقة لمن يتقن الروسية.
في سوق الكتب
ويعاني الأدباء الروس المعاصرين من رؤية ابداعاتهم مترجمة إلى اللغات الأخرى، وبالتالي من الصعب التعريف بأعمالهم رغم حضورها الفاعل للناطقين بالروسية. نشر في هذا الصدد الى اعمال: فيودور أبراموف، فاسيلي شوكشين وفلاديمير تيندروكوف وفاسيلي بيلوف وفلاديمير كروبين وبيتر ألوشكين ويوري بولياكوف وإلى حد ما فالنتين راسبوتين.
جوائز ومعارض
ونجد الكثير من النقاد الغربيين الكسولين يرددون أنه لا يوجد أدب في روسيا المعاصرة، ولعلهم استندوا إلى ما تطبعه دور النشر التقليدية في الولايات المتحدة وألمانيا، وما يحوزه الأدباء الروس من جوائز عالمية.
ولكن روايات مثل «حدوة حصان» لزاخاروف نشرت في مجلة «فاغروس»، قد لا تجد متنفسا في فرض نفسها في معارض الكتاب والندوات وحفلات التوقيع، ومع ذلك تعتبر حدثا أدبيا حقيقيا وتبشر بجيل روائي جديد.
الاتجاهات الرئيسية
إن الأدب الروسي المعاصر يتطور وفقا لقوانينه وكذلك مناطقه.
ولا بد من الإشارة في هذا الصدد الى حسم مسألة الأدب الروسي والأدب المكتوب بالروسية، فهناك ابداعات تظهر باللغة الروسية تنشر في أوروبا والولايات المتحدة وإسرائيل وهي في حقيقة الأمر أدب روسي (خارج المنطقة).
كما نشير إلى ان الأدباء الروس مروا كغيرهم بمرحلة صراع الأدب الحديث من الواقعية إلى «ما بعد الحداثة».
فمثلا حينما فاز فلاديموف بجائزة بوكر برواية واقعية، كأنه حذر انصار بيلوفين ومدرسة ما بعد الحداثة وما أثير وقتها من جيشين متحاربين في الأدب الروسي.
اضف الى ذلك، تميزت أعمال اولغا سلافنكوفا ونيكولاي كونونوف وفيرا بافلوفا وناتاليا جالكينا بالاتجاه الواقعي ـــ اللاواقعي (أي طمس الحدود في ما بينهما)، فيما وجد بوريس آكونين وتاتيانا تولستوي أنصارا لكتاباتهما الواقعية الشعبية.
ومن الممكن ملاحظة التطرف في «التدمير العلني» للاطر الروائية المعروفة لدى داريا دونتسوفا وبولوكوفا ويوتوبيا شورونوفا الذين اعادوا مناقشة العلاقة ما بين الأدب والواقع مجددا في السجالات الأدبية اليومية في روسيا.
ما بعد الحداثة
كنا في الثمانينات نسمع من الأدباء الروس مصطلح «الأدب الآخر» الذي خرج منه ديمتري بيريغوف وليف روبنشتاين وتيمور كيبيروف وايفان جدانوف وفلاديمير سوروكين وفيكتور ايروفييف وآخرون اعتبرهم تاريخ النقد في روسيا ممثلين لما بعد مرحلة (2000-1970) التي تميزت باتجاهين لما بعد الحداثة: الأول، بصفتها (ما بعد الحداثة) نظرة معقدة ومبادئ جمالية وكتلة واحدة. والثاني، ما بعد الحداثة باعتبارها وسيلة للكتابة ما بين العميق والسطحي بما في ذلك: الاقتباس، العاب اللغة، بناء النص بطريقة غير تقليدية، تدمير التسلسل الهرمي للاحداث وعناصر البناء الروائي وما يعتبره النقاد «قيم النص»، نوع جديد من الوعي والافكار، انقسام الروحي والمادي بدرجة لا تمنح النص تفسيرا على نحو متوقع، كالعالم مجهول، مجموعة نصوص متنوعة سائلة في واحد والفكرة تنبثق من تلقاء نفسها، لا وجود للكاتب، القارئ بالقدر نفسه هو الكاتب.. الخ من مئات الأساليب المروعة الجديدة.
الألعاب الجديدة
ان روايات ما بعد الحداثة في روسيا متنوعة جدا، منها كبدلة العيد واخرى مؤسسة كأعمال فلاديمير سوروكين، حيث لا يزال الكاتب يدمر تجاربه الواحدة تلو الاخرى ويختبر انماطا مختلفة.
هناك روايات ميخائيل كونونوف وعرضه التاريخ المخزي المفقود في الحرب العالمية الثانية، وكذلك مايكل ايلزاروف الذي اطلق عليه النقاد «غوغول الجديد» بلغته الثرية الموسيقية المدهشة.
وللراغب في التجول في حديقة الرواية الروسية ما بعد الحداثة سيبرز امامه ديمتري بوكوف وفلاديمير نوفيكوف وسيرغي نوسوف وفاليري ايشكاكوف وأوليغ بافلوف والكسندر تيتوف الذين أبقوا «الكلاسيك» الروسي على قيد الحياة مع نص حداثي معاصر كما فعل فلاديمير نابوكوف، بتنظيمه التقني العادي للواقعية الوجودية التي ارتبط فيها الادب الروسي لاكثر من 70 عاما.ثر من 70 عاما.