الأحد، 19 فبراير 2012

سـُقم



ليس الذي تثقل فيه القدمان
وتنهار الأسنان
ولا الذي يسكن فيه الخريف تحت الجلد
ولا تفرق فيه بطاقة الذهاب عن الإياب
لا الفراغ الدائر في النوافذ المغلقة
ولا الغبار المارق في الأفئدة
وانفصام أجمل الذكريات
هو فوق الصوت الكئيب المفتت في العمى
ليس فرعا من الموت
وقسطا من اليأس
وجزء من الدموع المزنـّرة
أن أرذل العمر
هو الذي لا تعرف فيه كيف تحب।

Dalida & Serge Lama - je suis malade


الثلاثاء، 14 فبراير 2012

من الخزائن القيمة لـ Amy Winehouse


المولودة لكي تتعذب وتصهرنا في الربيع


كأنك لا تقيمين في جسدك
لمتراكم فيه الألم كمياه تعدو
هو لسانك المقطوع
في بهائك المغطى بالعصافير
كفراشة منحوتة من أجل الموت
تمضي أذرع كلامك
لجذورنا المفروضة
مغطية ذلك البرّ .. الذائب
بالعبارات السائلة كالتجاعيد

من ذلك الليل الضائع
يبرق صوتك كالصمت مرة
وكالضياء مرات
لتفتحي ندب الهواء
في جناحيك
ولتتحولي
إلى قفزة ريح
تنقذ الماء الناشف في حلوقنا

اختتمي
الأغنية المنسية
واختبئي في الشفاء

من أوجاع فروغ فرخزاد


إلى أحلامها الباردة والهادئة الممتدة عبر الليالي والحمائم البريئة

لنؤمن ببداية فصل البرد


أنا عارية كالصمت بين كلمات الحب،
وكل جراحي منبثقة من الحب،
من أن أحب...
هل سأتمكن من أن أمشط شعري من الريح مجددا؟
هل سأتمكن من زرع زهور الثالوث في الحديقة مجددا
وأضع أزهار برة الراعي في السماء خارج النافذة؟
هل سأتمكن من أن أرقص على أكواب النبيذ مجددا؟
هل سيناديني جرس الباب مجددا نحو صوت مرتقب؟

كم كنت محبا عندما حملتني إلى
مروج الحب
عبر ظلام قامع
إلى أن أنسدل ذلك الدخان المندفع،
والنفس الأخير للعطش الملتهب
فوق حقل النوم.
وتلك النجوم الكرتونية
دارت حول الأبدية
لمَ أطلقوا على الأصوات اسم النطق؟
لمَ رحبوا بالنظرة في منزل الرؤية؟
لمَ حملوا اللمسات
إلى شعر العذرية الخجولة؟
انظروا كيف صلبت هنا
روح شخص تلفظ بكلمات
شخص عانقته نظرة
شخص هدأت قبلاته المتحفظة
على مشنقة الهواجس
وكيف انحفرت
علامات أغصانك الخمس
التي كانت كحقيقة من خمس كلمات
على وجنتي.

عندما ينام الربيع مع السماء خلف النافذة
بأسهم ضوء خضراء
ستزهر الأغصان، يا أعزّ حبيب
لنؤمن ببداية فصل البرد.

تلك الأيام


وكان الحب
يعبر عن حاله في سلام خفر
ذلك الشعور المضطرب
فجأة
كان يحاصرنا
في ظلمة رواق وتتجاذبنا
وسط غمرة من اللهاث الحارق وخفقان القلب
والبسمات المختلسة

وداعا

أقسم بأن أخرج من مدينتك
قلبي المجنون
آخذه إلى مكان بعيد
كي أغسله من صباغ الخطيئة
أغسله من لطخة الحب

عصيان

تعال أيها الرجل، أيها المخلوق الأناني
افتح أبواب القفص
كي أرخي جناحي
وأطير صوب سماء الشعر الساطعة

منسية

نظمت قصيدة كي أرفع عن قلبي
حمل أسى حبه الثقيل
أصبحت القصيدة
تجليا لوجهه
لمن أشكو
ظلامة حبه

يا نجوم

نعم، أنا التي في عز
هدأة الليل
أمزق رسائل الغرام
مضى بعيدا، إلا أن حبي له
لن يفارق قلبي أبدا
يا نجوم، ماذا جرى
كي يتخلى عني؟

النافذة

الأحلام دائما ما تقع من على
سذاجتها وتموت.
ها أنا أشتم نبتة برسيم من أربع ورقات
نمت على سطح قبر المبادئ القديمة.
أولم تكن المرأة التي تحولت إلى غبار
في كفن انتظارها وطهارتها
شبابي؟
هل سأتمكن من أن أتسلق مجددا سلالم فضولي
لأحيي الإله الطيب الذي يمشي
على سطح منزلي؟
أشعر أن الوقت قد غفل عني.
أشعر أن "اللحظة" هي حصتي
من أوراق التاريخ.
أشعر أن الطاولة حاجز غير مرغوب
بين شعري ويدي
هذا الغريب الحزين.
قل لي شيئا.
أممكن أن يكون الشخص
الذي يعطيك حنان جسد دافئ
يريد منك شيئا آخر
عدا الشعور بالحياة؟
قل لي شيئا.
في ملجأ نافذتي
أنا متصلة بالشمس.

أنا محبطة

أنا محبطة
آه كم أنا محبطة.
أتوجه نحو الشرفة وأمد أصابعي
فوق جلد الليل المشدود
والمصابيح المربوطة مظلمة، آه كم هي مظلمة.
لن يعرفني أحد إلى نور الشمس
أو يرافقني إلى اجتماع عصافير الدوري.
احفظ الطيران،
فالعصفور فان.

* تحية إلى مايكل هلمان وبولس سرّوع اللذان احتفيا بـ "المرأة الوحيدة" قبلنا.

مرة ً كلّ حب



هندسة الهوى أميبية
لكل فرد فيها متاهته
وجينوم أسطره
فلنتعقب أيـّا من زَبدِها
مُذاب خط ّ العشق
في منقلب الكفّ:

الحب الرحيم :

سرّهُ باهرٌ كالسرّاء والضرّاء
والمحكوم عليهم بالحياة
كقارئي المراكب في هدأة البحر
وضّاح عديم النسمة
حملٌ زائد على دراجة القلب
جياد مشتتة الذهن
وحرث في ثلج مرصوص
مقروء كمرض شهير
ومكرر كالنوم.

الحب الواهي :

لا يأمل إطناب
يجاري عطشه بامتداح الضآلة.

الحب الصافي :

انقيادي البريق ومحض موازين
نبوءات طافية ترضع بحثا
عن مفتاحها.

الحب الخامل :

يتمادى في حين
ويصعق في آخر
لكنه على طول المسار نموذجا للغياب.

حب الإغواء :

متواصل كالماء
مخاتل كوريد متقد
سيد الرهافة ومنتزع العبثية ومروّع اللمعان
قهـّار يتكاثر في الاستعباد
مخمّر من رماد
وإليه يعود.

حب الحب:

ويسمونه أيضا الحب من طرف واحد ؛
صاغر وكريم ومؤدب ومسكين
يبدل ملاءاته كل دموع
مؤرق ومؤجل وجائع ومهووس بالبحث
محبون الحب يهوون التظلم والسهر
ويظنون أنهم سيفقدون حبهم ما أن يناموا
لذلك تبقى عيونهم مفتوحة
متأملة مقدم الحبيب
حتى يموتوا باستسلام.

الحب الخادع :

أزلي ومحفوف بالنهود والأرداف والأعضاء الجائحة
معطوب بالشبق غير الصبور
دنس ومسخ ومربك القلوب بالحل البسيط
وناعم كمسألة مرسّخة.

الحب الصامت:

أعمى لا أحد يساعده على عبور الشارع
وحيد لا من يلمس كفه
غريب ليس لديه من يلجأ إليه
عاجز لا قدرة على فعل شيء
نزيف مستمر أمام المرآة.

الحب الأكبر:

لا يؤمن بالاتجاهات
خفقة واحدة تكفيه
لكي ينجّي العالم
ويا ويح شهيقه
لو كان أعمق من زفيره
يحمل : ضمير الكناري ونوبة الشياطين وأسمال الأشداء وأنفاس الريف والتميمة المنوّمة وحلوى العجائز وجرعة الجرحى وتقويم القمر وذاكرة المغفرة وحرارة العدوى وضوء العين ووحدة الحضن وغيرة الأزواج وتناسق الافتراض واسم العتمة وكرم الفراشة والصمت القلق وتحضر النواح وحكمة المحن وتراضي الأمراء وخجل العذراوات وهذيان الصوفيين وخبرة السكيرين وعدوانية المتغطرسين وسماحة العاهرات وإدراك الأعشاب وحنان الأبقار وجنون الكبريت.

من جرّب كل أنماط الحب المذكورة
سيلقى الضريح الجميل
وكل الذين أحبهم
سيبدلون أثلامه
ويهوّنون عليه برودة الأرض
وسيقص على جيرانه الهادئين
حكايات عشقه
ويوم عرسه الأخير.

الجمعة، 3 فبراير 2012

نص الوحيد


الوحدة الحقيقية
أنك بعد أن أمضيت حياتك كلها
اكتشفت الآن وبعد تلاشي السبل
أنك وحيد।

حزنه الذي لا يوصف
بسبب الذكريات الرائعة التي تبددت
ولم يستطع إمساك لحظة منها।

ستتأكد من العزلة
عندما الباب لا يئن
بمرور العابرين
والمحركات تزأر رائحة غادية
والهاتف مجرد قطعة معدنية

وتنمو معك كل يوم آلام جديدة

والعصافير وحدها حولك تزيد।

مقذوفاً في المشرحة
سيلتقطك العمال مثل كيس

مع ما كنت تحمله
في يقظتك।

بعد أن دفنتهم جميعاً
الجميلون.. الرائعون.. الأثيرون
أدركت أن الموت يعشق الجمال।

مع حلول الموت
لا تحدث مفاجآت مفزعة
فحين نقابله سنتيقن وقتها
أننا كثيراً ما كنا ميتين. في الحياة।

حينما تكون في الموت
ستدرك منذ اللحظات الأولى
كم أسأت الظن فيه।

لا شيء سيتغير
حتى لو لم تكمل استعدادك
لا متعلقات هامة لديك على الأرض
مشطوب من سجلات التقاعد
ومسجل في دفاتر بعض الفنادق
حتى في نصوصك أنت غير موجود
فامض. قدماً إلى الموت
بلا التفاتة للبائسين الأحياء.


PERFUME


نموذج للسينما الحسية متكيف بعطر باتريك زوسكيند الرواية الأكثر رواجا في العالم منذ صدورها عام 1985 والمترجمة إلى 45 لغة والتي باعت 15 مليون نسخة حتى الآن. المدرسة السينمائية التي تحاول الغور في الأحاسيس ومس الوجدان وتحفيز المعرفة والعيون والآذان وإبقاء كل حواس المشاهد على المحك مع خدشها بلا رعاية أو رحمة. شاركت في إنتاج الشريط البالغ طوله 147 دقيقة ثلاث دول قدمت الكثير إلى السينما: فرنسا، ألمانيا وفرنسا، اختارت توم توكوير لإخراجه وإدارة البطل المثير لرواية العطر جان باتيست غرنوي الذي وصفه المؤلف منذ الأسطر الأولى بأنه أحد 'النوابغ الأوغاد' الذين برزوا في القرن الثامن عشر في فرنسا منتميا إلى أكثر الكائنات 'نبوغا وشناعة' واضعا إياه مع رجال مريبين آخرين هزوا عصرهم مثل دوساد وسان جوست وبونابرت وغيرهم. وكان المطلوب من توكوير أن يكون أكثر جدية في التعامل مع غرنوي (الممثل البريطاني الشاب بن واشوا) عنه في أفلامه السابقة، لأنه سيواجه شخصية ولدت في جو لاذع بروائح القرن الثامن عشر التي لا يتصور أي إنسان من عصرنا الحديث مدى نتانتها التي تفوح من الناس والمدافئ والمدابغ والشراشف والغرف غير المهواة والمباول والمسالخ والأفواه والأنهر والساحات، فالإنسان حسب زوسكيند لم يكن قد توصل في ذلك الزمان إلى وضع حد للتفاعل التحللي للبكتيريا، ولذلك لم يكن ثمة تفتح أو فعالية بشرية بناءة أو مخربة من دون أن ترافقها رائحتها.

مطر الأزهار الذي يذهب بالعاطفة إلى العاطفة والروح إلى الروح

ضفدع في 'مقبرة الأبرياء'
وفي باريس حيث كانت الروائح على أشدها وخاصة الجهنمية منها في 'مقبرة الأبرياء' التي ضمت موتى ثمانمائة سنة وعليها بالذات أقيمت ساحة السوق الذي ولد فيه جان غرنوي (في لهجة تلك الأوقات يعتقد أن اسمه يعني: الضفدع) في أشد أيام السنة سخونة حينما كانت والدته الواصلة إلى منتصف العشرينات والتي لم تعان من أمراض جدية عدا النقرس والسفلس والسل الخفيف، تقشر السمك الذي طغت رائحته على الجثث وكان الألم قد أمات عندها أي حساسية تجاه الانطباعات الخارجية للوجود، فاستلقت مثل سمكاتها المكومات لتضع مولودها جان كما لو كانت تتبرزه، كالمرات الأربع السابقة التي ولدت فيها تحت عربة السمك وألقت بأولادها مع نفايات السمك في نهر السين، لكن قدرها والحر الشديد ساعدا جان على الصراخ المتواصل الذي جلب أنظار الناس والشرطة في وقت كانت أمه قد قطعت مشيمته بسكين السمك. وبناء على القوانين السارية فقد اتهموها بجرائم القتل بحق أطفالها وعلقوها في مشنقة جاهزة، فيما كان الرضيع يصرخ بين أحشاء السمك والذباب ليمنح إلى مرضعة اشتكت من جشعه في مص حليبها دون أن يترك نقطة واحدة للرضع الآخرين.
للواقعية السحرية نسق خاص لا تصلح بالحسابات الواقعية المنضبطة حتى لو قدمتها سينما مذهلة

محنة المؤلف ومتاعب المخرج
وعلى توكوير تصوير كل هذه الفواجع في أقل من عشر دقائق مستعينا بأسلوب تقليدي ورث في السينما وهو صوت الراوي (أداء شون باريت الذي كان يصرف الانتباه بدلا من تركيزه بتلقينه المعلومات السهلة اختصارا للزمن وحذف الكثير من مقاطع الرواية لأغراض إنتاجية والتخلص من ديكورات صعبة التنفيذ، وكان يقرأ مقاطع مجتزأة من الرواية وكان عليه أن يوضح للمشاهد الذي لم يقرأ الرواية بان جان غرنوي لم يحمل أي رائحة وله قابلية على شم الروائح عن بعد كبير وتمييزها بشكل لا يستطيع مخلوق على ذلك.


السينما لا تستطيع أن تكون كل شيء في آن واحد وأن تحتل كل مستويات القوة في الأدب

ستتوالى متاعب السيناريو الذي شارك المخرج في كتابته مع السيدين بيرند ايشنغر وأندرو بيركين، منذ اللقطات الأولى حيث قدم غرنوي وهو في السجن مسحوبا إلى المقصلة وهو حدث يمهد للخاتمة، وبعد أن بدأ الفيلم بهذا المشهد نسي المونتاج والإخراج وكاتب النص السينمائي ربطه مع أجزاء الأفلام الأخرى، بل وأهملوه معتمدين على فطنة من قرأ الرواية وهو المشاهد الأتعس حظا بين الحضور في قاعة السينما، لأنه سيدرك منذ البداية السبب الذي جعل باتريك زوسكيند يعترض ولا يوافق على تحويل روايته إلى السينما منذ منتصف الثمانينات حتى تمكن صديقه المنتج الألماني بيرند ايشنغر من انتزاع موافقته الذي اختار العزلة وإنتاج الفيلم عام 2006 على الرغم مما قيل أن زوسكيند كان يفضل جهود: ستانلي كوبريك، فرانسيز فورد كوبولا، مارتن سكورسيزي، تيم بيرتن، كورت كوباين، ريدلي سكوت أو ميلوس فورمان، إلا أنهم جميعا رفضوا إخراج الفيلم لمعرفتهم بالمتاعب التي تنتظرهم في الرواية، وهو الإغراء الذي لم يضعف أمامه اللاتيني الأمهر غابريل غارسيا ماركيز الذي رفض عروض أكثر إغراء لتحويل روايته 'مائة عام من العزلة' إلى السينما.
سقط الفيلم لأنه موجه للمثقفين لكنه ضئيل الثقافة وطرزّ وريقات من الرواية وحرفها

الواقعية السحرية
وتذكرنا لهذه الرواية متعمد لأنه يستند إلى الواقعية السحرية التي لها نسقها الخاص الذي يصعب على السينما تجسيده، إن لم تكن حجر عثرة للدال والمدلول والتصاق الشخصيات وابتعادها بعضها عن بعض كما مع الآخر والأشياء المرئية منها وغير المرئية والثنيات السرية في بناء الشخوص والعالم خلف الجسد والحركة الفيزيائية له والجوهر الفاعل خلف الكلمة، ذلك الذي يمتلك المعنى الأكثر مملوكا من المشاهد - القارئ والذي لا يتكلم عنه، بل يكلمه أو يتكلم وفقا له أو يتركه يتكلم، مخترقا داخله نحو فضاء وعي مرتبط بنسيج كلمات لا يستطيع فن السينما بالرغم من رقيه، نقشه أو تبادل الأفكار معه ولن يستطيع خلق الأبعاد الكاملة للكلمات التي حدد الأدب وحده مسافتها ومداها.



قوة الأدب وأسلوب السينما
هنا سقط الفيلم لأنه موجه للمثقفين ولكنه ضئيل الثقافة وأمعن في تطريز وريقات من الرواية وتحريفها حسب فهم وأسلوب السينما التي لا تستطيع أن تصبح كل شيء في آن واحد وأن تحتل كل مستويات القوة في الأدب، فالحذف والإضافة وتغيير المسار والرؤية ستبطش بالمعنى والجوهر الذي خلقت من أجله الرواية، وكما يلتهم آكلو لحوم البشر في نهاية الرواية والفيلم جان غرنوي، فقد مزقه المخرج والسيناريو إربا وأنكر عنه أهم صفاته وتخطاها ليقدم قاتل فتيات شاحب ومهووس ونحيل ويهوى شم العطور.ومن دون تساهل خلط الفيلم عناصر لا يمكن التلاعب فيها ومزجها وأفرغ، بل وانتزع تلك الصعوبة اللذيذة للوضع المكاني ـ الزماني لفرنسا تلك الحقبة وأسطورة جان غرنوي المشيدة على الإبهار المطلق والمنظر الخاص المشتق من نفسه وحده وامتلاكه إياها مع تعاليه واحتقاره لكل ما حوله، فليس لديه نظرتنا حينما يسلخ قط كبير صانعي العطور في باريس جوزيف بالديني لإكمال تجربته التي هي أهم من هذه 'الروح' الشبيه له والقتل بالنسبة الى الآخرين جريمة بشعة، لكنها بالنسبة إليه مجرد خبرة ممنوعة بعد إنجازها يحقق هدفه وشخصيته بإنتاج عطر لا مثيل له، هو في الحقيقة رائحته المفقودة وشخصيته وإنسانيته التي قطعت بسكين تنظيف الأسماك في ناصية عفنة من 'مقبرة الأبرياء'.

Laura's perfume

بيضة الشيطان
هذا التعيس جان، المولود بين أحشاء الذبائح، شجع النقاد على إحالة حكاية زوسكيند إلى أسطورة 'بيضة الشيطان'، لقد أراد تعويض فقدانه للرائحة الذاتية لخلق رائحته الخاصة بمزيج من العذراوات كتنقية لسلطته وفهمه الخاص للحياة التي تبدأ لديه من الرائحة.ومن قال إن الجرأة تنهض بالسينما دائما وهل أن المشاهد المركبة تنفع بالضرورة؟ وإذا توافرت عناصر الصلب هل سنحصل على حكاية السيد المسيح كما حاول مشهد ساحة الإعدام الذي انتهى بسيل الحب؟إن الفيلم مظلم ومظلم جدا ومركز على هوس وحيد، قد لا يستطيع المشاهد تحويل بصره عن بعض الصور المريعة، لكنه لن يقدر على التوقف عن مراقبة الرعب والسحر الذي يحمله حاصرا الخيال لمهمة الاستدعاء.


أمثلة التحريف
ويبقى الشيء الوحيد الذي لا يغتفر ولا يمحو عيوب الفيلم هو عدم وفائه للرواية وخاصة قضيتها الجوهرية والحوادث العديدة التي حذفت وتلك التي مروا عليها بسرعة فائقة لم تنقذهم من اختصار دقائق الشريط المفرط الطول. ويمكن إيراد أهم أجزاء الفيلم التي تعرضت للتحريف الخطأ:1 ـ في الرواية يقتل جان غرنوي عن عمد، أما في الفيلم فعملية القتل الأولى التي جرته إلى سلسة من الجرائم كانت بالصدفة لإخفاء صوت الفتاة المستغيثة. وبالتالي فهو يقتل كما ذكر لوالد الفتاة الأخيرة: كانت مهمة بالنسبة إلي. ويقصد رائحتها. 2 ـ كبير صانعي العطور في باريس داستن هوفمان كان في الرواية الحكيم والمعلم الأول له الذي صقل موهبته الفطرية بتدريبه على كيمياء العقل قبل الغريزة وعلمه الأسلوب وكان رحيما به، فيما يزعق في الفيلم أكثر مما يعلم. 3 ـ والد الفتاة كان في الرواية إنسانيا وضحية، فيما أظهره الفيلم متزمتا جافا ومتعطشا للانتقام. 4 ـ الخاتمة التي انتظرها الجميع من السينما عانت بعض المشاكل: أولا ـ إظهارها بالحركة البطيئة بخلفية موسيقى رائعة هدأ من روع المشهد، الذي كان من الممكن أن يكون واحدا من أهم المشاهد في تاريخ السينما. ولعلكم تتصورون ماذا يعني أن يمارس الآلاف، في ساحة عامة، الحب بشكل علني ابتداء من أب الكنيسة وإلى الدرك والجلاد المشرف على مقصلة الإعدام.الحركة البطيئة هنا، أفقدت المشهد سخونته ودفقه ووحشيته ونزقه وحافظت على جماله فقط، فالذي حدث لم يكن ممارسة حب بين عاشقين، بل تفجر شبق بطاقة أهملها الشريط لصعوبة تصوير الطاقة على الأرجح، كان المشهد شديد الرومانسية، فيما هو في الرواية زلزال مشاعر. ثانيا، من قال إن مؤلف الرواية قدم شخصية الملاك؟ إن الناس في الساحة هم الذين رأوه ملاكا، لكنه كان شخصية خاصة جدا ونادرة ولا يعلم بأنه ملاك أو غيره من التسميات البشرية، لم يبال البتة بهذه الأوصاف ولا يغتر ما إن سمع الناس ينادونه بالملاك، إنه حتى لا يعرف ما الذي يعنونه بهذه المفردة، فكيف يرفع يديه كأنه صدق فعلا أنه صار ملاكا، ليستجيب لحركتهم في السجود إليه، هذا الإيماء لم تحتوه الرواية، ولهذا السبب كانت عظيمة، لم يعنه ما الذي يكون، هو اهتم بالرائحة وبالعطر الذي صنعه، جل هدفه كان صناعة عطر خالد لا يضاهى، هذا ما قاله لهوفمان: سأصنع العطر الوحيد!ثالثا، لماذا جنح الفيلم ودس في غضون ممارسة الجميع الجنس في الساحة استرجاع البطل لذكرى الفتاة الأولى التي قتلها وكأنه يحبها ويمارس الجنس معها؟أن غرنوي لا يستطيع أن يحب وغير مهتم بالحب وسلوكه استحواذي، لكنه فجأة يبدو عاشقا في الفيلم بمشهد الاسترجاع شاحب الخيال وكم ستكون مصيبة المخرج كبيرة لو يصدق المشاهدون بان غرنوي وقع فعلا في حب ضحيته الأولى!الرواية لم تتطرق لهذا المنولوج بالمرة، لأنه ببساطة غبي، ونسف تكوين شخصية زوسكيند، إنه مخلوق بلا رائحة، ولد في جوف زريبة أسماك، وكان يبحث عن رائحته الخاصة (شخصيته) في الروائح العظيمة للنساء اللواتي تعرف عليهن وكانت الأولى والأخيرة أهم الروائح التي شكلت عطره الفريد، وإذا كان تذكره الفتاة الأولى، لكونها الأولى التي شكلت رائحته التي قدمها للعالم.هنا لم يفرق الفيلم بين فلسفة الروائي وتكوين الشخصية الداخلي، كذلك لم يفرق بين ما هو عليه وكيف ينظر إلى الناس والكون وكيف ينظر الآخر إليه، هو لم يهتم بالآخرين فكيف غيرهم وجعلهم يحبونه إلى حد العبادة والالتهام؟ فأكثر ما كان يشغله عطره الخاص، فرادته وقيمته الخاصة، مشهده الخالد.رابعا، كثيرا ما تبدل السينما الروايات، وأكثر ما تضيف وتغير وتحذف، لكنها في حالات تتدخل وتغير نحو الأحسن، هنا كان التبديل نحو الأسوأ، حيث نسفت عظمة الرواية وأهم ما تملكه وقدمت شخصية أخرى، ناهيك عن عدم التوفيق في رسمها والصورة البشعة فنيا التي ظهر عليها البطل منذ اللحظات الأولى لظهوره في الفيلم حتى المشهد الختامي.خامسا، كان يريد أن يتلاشى بين الناس، لذلك اختار أكثر الفقراء فقرا لكي يسمح لهم بالتهامه، حتى تخترق رائحته أجساد الجميع (وليس بالضرورة جسده)، كان يريد أن يتماهى في الآخرين وأن يكون في الجميع، أقاربه الفقراء.

Grenouille meets Laure


شريط قاحل جدا
الجزء الذي كان ينبغي أن يرتاح فيه المشاهد هو الذي جمع بن واشوا وداستن هوفمان الذي لم يكن رائعا كما ألفناه في باروكته المجعدة والبودرة المخملية والذي حال مغادرته الفيلم بانهيار بيته ومعمله في النهر، أصبح الشريط قاحلا جدا من الناحية الحسية التي بني الفيلم على أساسها. وحلت الفتاة ذات الشعر الأحمر التي كان رحيقها المكمل النهائي للعطر لورا (راشيل هيرد) في الفيلم كما رحلت عنه بلا أي تأثير كوالدها أنتوين ريشيز (الن ريكمان) الذي كان أداؤه الأقل تميزا وإقناعا. فكيف بالإمكان استيعاب ارتداء هذه الفتاة الارستقراطية ملابس الفلاحين والرقص في ساحة نوتردام دي باريس ومن ثم شجارها الوقح مع والدها وهروبها عبر أزقة المدينة الموحشة في الليل.

كيف تتحرك الكاميرا لتحول حاسة إلى صور بصرية خلابة الجمال ومجيدة الرعب وبارعة القسوة وشنيعة الذهول ووحشية الإتقان ؟

خيط الخلود
إن منحة العطر الذي صنعه غرنوي لمست بذروة الاتحاد الجنسي للجموع التي كانت قبل شمها العطر تهتف بتمزيقه، اتحاد العلاقة بان كخيط الخلود الذي تناظر بين الجنس والسماء والثقافة الدنيوية الشبقة، فيما أدى العطر وظيفته أن صير الجنس عنصرا مساعدا للاتحاد الروحي ـ العاطفي وكمنبع للذكريات الجميلة والحنين والسرور الصافي الذي جعل حتى آكلي لحوم البشر في خاتمة الفيلم والرواية فخورين لالتهامهم غرنوي، بابتسامتهم الفظة التي كانت تعني حسب زوسكيند أنهم لأول مرة في حياتهم فعلوا شيئا عن حب.هكذا تقدم جان باتسيتا غرنوي نحو المقصلة بين الحشود المتعطشة لدمه متسلحا بزجاجة عطره كالقائد الروماني في أنجيل لوقا في العهد الجديد ليجبرهم على الانحناء إليه في طقس أسطوري بعد أن قهرهم بالرهبة المطلقة التي امتلكها: مطر الأزهار الذي يذهب بالعاطفة إلى العاطفة والروح إلى الروح، هذا الذي قتل حتى التفنن في الانتقام الذي توعده ألن ريكمان بأنه سيشعر بأعلى درجات السعادة ما إن يسبح في دمه، غير أنه جثا على ركبتيه متوسلا معتبرا إياه ابنه. وبجزه عنق الانتقام وامتلاكه السلطة المطلقة التي تحرك الجموع وتجبرهم على السجود تحت قدميه، حقق رائحته، قصيدته المظفرة ولم يبق أمامه إلا الغور أكثر في أفئدة الفقراء: أهله، بعد أن عاش طوال حياته مثل لا أحد لافتقاده رائحته الخاصة وهو الشخص الخاص.. جدا، وبناء على هذه الخصوصية دفعهم لكي يلتهمونه سائرا بهداية السيد المسيح القائل في إنجيل لوقا: 'أولئك الذين يأكلون لحمي ويشربون دمي سيبقون في وأنا فيهم'.

Love in the Time of Cholera

فكرت هوليوود 22 سنة لتحول واحدة من اعظم اعمال القرن العشرين الادبية 'الحب في زمن الكوليرا' ذات ال 348 صفحة الى فيلم ب 138 دقيقة. وبعد ان اتخذ القرار، كانت مساهمات غابريل غارسيا ماركيز في الفيلم اقل ما يمكن، فالكاتب العظيم بلغ الثمانين عاما واكتفى باهداء المخرج مايكل نيويل نسخة من الرواية عليها بعض الملاحظات لا تتعدى بضع صفحات، لكن نيويل ادرك ان ماركيز كتب كل ما يريد قبل عشرين سنة في الرواية كما ادرك ايضا الفارق بين اخراج رواية هاري بوتر وعمل لماركيز. لكن ماركيز بذل جهدا استثنائيا لدى لقاءاته المتكررة مع الممثل خافيار بارديم لكي يساعده في تفهم حالة فلورينتينو اريثا وكيف استطاع حمل حبه طوال 51 سنة وفوق ذلك تاكيده له بعد كل هذه الاعوام. ومحنة بارديم كانت تواجه اي شخص يقرأ ماركيز، فهذا الكاتب تستطيع قراءته ولكن ما القدرة التي تملكها لتسمح لنفسك ان تصبح نسخة للتعبير عن اوصافه المعقدة وتستسلم لها بكل سرور.



روايات ماركيز في السينما
يذكر ان 'الحب في زمن الكوليرا' لم يكن الفيلم الاول الذي صور روايات ماركيز، فقد سبقه فيلم 'ارينديرا البريئة' الذي اخرجه البرازيلي راي جويرا في عام 1983 دون ان يؤثر النص السينمائي على الرؤى الباطنية للنص الروائي. وفي عام 1987 اخرج الايطالي فرانسيسكو روسي رواية 'قصة موت معلن' مثلها النجمان روبرت افيريت وارنيلا موتي، وكذلك حولت روايته 'ليس لدى الكولونيل من يكاتبه' الى شريط سينمائي عام 1999 بواسطة المخرج المكسيكي ارتورو ريبستين، بطولة فرناندو لوجان وسلمى حايك. بينما كانت رواية 'في ساعة نحس' آخر عمل روائي لماركيز يحول الى السينما عام 2004، اخرجه البرازيلي راي جويرا الذي كان قد اخرج له اولى رواياته. وكان ماركيز قد ساهم في كتابة العديد من سيناريوهات الافلام في فترات مختلفة من حياته.


الفريق الذهبي
ربح الفيلم كاتب سيناريو فريد الطراز هو رونالد هاروود الحائز جائزة الاوسكار عن فيلمه 'عازف البيانو' الذي درس كل تفاصيل القرية الكولومبية الصغيرة كارتاغينا وميناء برات اللذين جرت فيهما اغلب مشاهد الفيلم كعملية اختراع العالم الذي حدثت فيه الرواية. وحسب تصريحات المخرج مايكل نيويل فانه قد عانى كثيرا في مسالة اختيار الشخصيتين الرئيسيتين، وكان يريد لدور فلورينتينو اريثا شخصا يمكنه ان يكون شابا بعمر 15 سنة ويشيخ باقناع لغاية 75 عاما مع امتلاك الملامح والنظرة الكلاسيكية الغامضة، ولم يعثر على افضل من النجم الاسباني الكبير خافيار بارديم الذي تدفق عطاؤه المدهش في فيلم 'اشباح غويا' وتطلب منه فقدان 16 كيلوغراما ليقترب من نحول اريثا. وتطلب لدور فيرمينا داثا امريكية لاتينية سوداء العين فوجد بعد بحث الممثلة الايطالية جيفانا ميزغيرونو وكانت سنواتها ال 33 تسمح لها بلعب دور الفتاة والعجوز. وهناك ممثلون آخرون من كولومبيا والبرازيل والولايات المتحدة.
سيناريو متكيف
يبقى عمل سيناريو هاروود متكيفا مع احداث الرواية، راسما صورة الدكتور خوفينال اربينو (بنجامين برات) ورفعته منذ المشاهد الاولى وهو يطمئن عروسه العذراء فيرمينا داثا (جيفانا ميزغيرونو)، مانحا بذلك درسا في العشق، وبالطريقة نفسها تم تقديم الولهان فلورينتينو اريثا (خافيار بارديم) الذي يملك قدرة على فهم اللحظة والتعامل معها بدقة، كمراهق وشاب ورجل اختار الانصياع للغزو الجنسي لاسكات قلبه المقهور، ومن ثم عجوز ذابل مؤمن بانه سينتصر مهما امتدت به الحياة وسيظفر بهدفه مهما طالت، كادعاء دانتي في ان يلهم حياته الكاملة لبيتريس ضابطا شوقه ومعاناته لغاية الانتقال نحو الانتصار في الخاتمة. ويبدو ان معضلة السيناريو كانت رغبته في عرض كل شيء في الرواية وعدم حذف الاجزاء التي احبها القراء في الرواية، خصوصا الهيام الجنسي الذي وقع به فرناندينو اريثا بعد هزيمة حبه وبحثه المستمر عن الحب مع 622 امرأة، ضاربا الرقم القياسي لكازانوفا عدة مرات كمحاولة لان يحبها من خلال اجساد نساء اخريات، الامر الذي صعب من مهمة مايكل نيويل حيث تطلب منه المزيد من الجهد والاماكن والشخوص والاموال، والاهم في ما واجهه السيناريو حتمية التفريق ما بين الجنس العادي الذي كان يمارسه اريثا على الدوام والحب الكبير الذي احتفظ به داخل قلبه والعاطفة الكبيرة التي جعلته يذعن للحب من حبيبة رفضت الشاعر الفقير واختارت الطبيب الثري، كالاسئلة التي حيرت ميشيل فوكو لمعرفة الحب الحقيقي، من ينبغي حبه، وباي شروط وما هو الحب في كينونته ذاتها؟ وحتى في البناء الافلاطوني وطرق التذكير التي يجيب بها اكزنوفون: التقابل بين الحب الذي لا يسعى الى متعة والحب الذي يهتم بالمحبوب نفسه وضرورة تحويل العابر الى صداقة متساوية، متبادلة ودائمة، ووضع حد فاصل بين حب النفس وحب الجسد الذي يحتقره في ذاته. ان مخطوطة هاروود حملت الكثير من الاجزاء البارزة لحوارات ماركيز وبغض النظر عن ورودها في السياق، الا ان الرواية يقرأها المثقفون والفيلم يشاهده العامة، ويبدو ان كاتب السيناريو مال الى جهة انصار ماركيز الذين لا يحبذون التهاون مع اجزاء مؤلفهم وروايته التي استمرت لسنوات الاكثر مبيعا في العالم. كما ان السينما تنتزع القصة من دون لغتها، كمن يقدم الغبار والعظام ويهمل القلب، وماركيز الذي شاع اسلوب اميركا اللاتينية الاستثنائي في الواقعية السحرية وبفضله اصبح شعبيا يتميز بان نثره يلعب على التناقضات الذي يعتبر افضل من يسخر منها في تاريخ الادب واحيانا لا نجد واقعية، سحرا فحسب يستطيع اقناعنا باهمية حدوثه، لذلك فان خيال ماركيز الواسع كان خرسانة الفيلم التي وقف عليها بثبات.


ثمار الإخراج
لقد افتتح نيويل الفيلم ليس كما افتتح ماركيز الرواية، وفضل المخرج الدخول مباشرة مع سقوط الدكتور خوفينال اربينو من السلم كاعلان موت الحب غير المتبادل مع فيرمينا داثا ومواجهة عذاب الذاكرة وتجريدها من حلوها ومرها، وكشف المصير لشيخوخة تكفيها زلة واحدة نحو الموت محيلا ايانا الى ذكريات افلام عميقة منحتنا اللغة نفسها، قدمها فيسكونتي وامبيرتو سول، حكايات الحب المحظور والفاشل، الحب المنكوب بلا ارادة احد، ذلك الحب الوقور الذي طالما مني بالخيبة. ولم يجهد المخرج نفسه في تصوير الحروب المتنوعة والاوبئة والاشخاص الثانويين في الرواية، ولن يحظى المشاهد بمؤثرات بصرية ولا موسيقى محفزة، رغم ان عمل انطونيو بينتو كان مؤثرا جدا في المشاهد الضرورية، ويعد هذا اسلوب نيويل الذي يتبنى سينما الخط الجديد: النهر المهيب الذي تودع فيه ثروات الثقافة الكولومبية، الديكور، الجنس، المرح، صوت شاكيرا الحيوي الذي يرافق الموسيقى التصويرية. ويمكن الادعاء بان الشريط فارغ من جماليات الفن السينمائي الرائج ومن الواضح ان مايكل نيويل لم يبارح الكاميرا طيلة فترة التصوير.
فيلم العوائق والمسافات
ان 'الحب في زمن الكوليرا' يعتبر فيلم العوائق والمسافات، فماركيز كتب الرواية بالاسباني والفيلم قدم سيناريو معتمدا على الترجمة الانكليزية وقدم بهذه اللغة ايضا وما بين الرواية والسينما من عوائق تضاف المسافات ما بين لغة واخرى، ناهيك عن ان مايكل نيويل بريطاني وليست لديه تجارب ولم ينغمس في الحياة الكاريبية، حيث تقع احداث الرواية. اضف الى ذلك ان الرواية تتحدث عن فترة تتجاوز الخمسين عاما بما يتطلب ذلك من تغيير في كل شيء: المدينة، الملابس، السيارات، السفن، اعمار الممثلين، كل شيء ينبغي ان يتطور كما في الحياة، وجرت العادة في السينما ان تحذف المشاهد التي تكلف الانتاج كثيرا او تؤذي الشكل الفني في حالة عدم تحقيقها، فالسينما تغض النظر عما يحرجها، لذلك لابد ان ترزح للديكور والرسم والمؤثرات الاخرى والعمل المقرف في الاستديو. (هذا لا يعني ان الانتاج بادارة سكوت ستيندورف كان يبخل على العمل فقد اهدر عليه 50 مليون دولار). ورغم ذلك نجح نيويل في ما هو اهم، انه منح الرؤية واللمسة الحادة واضاء نظرة المشاهد واخترع له اللمعان في يوم لم تشرق فيه الشمس.

صورة 'فلورينتينو ـ بارديم '
لفلورينتينو روح شاعر وهذه امسك بها المخرج نيويل والممثل المبدع خافيار بارديم الذي تمت مساعدته بشكل كامل من فريق الفيلم برمته فقد كانت الكاميرا تخدمه وكذلك فعلت المؤثرات والصوت وكان في اغلب اوقات الشريط على مرمى البصر كقلبه المعلق بتأرجحه العاطفي بين النساء وتوفيقه مع الكوميديا الصعبة والمرح الماكر الذي يبدأ به فتوحاته الغرامية عادة. ان تجسيد مثل هذه الشخصية يحتاج الى بصيرة وذكاء وقدرة واستعداد وسحر وتلبية متطلبات السينما ايضا ولعلها كانت مهمة مستحيلة، لذلك كان ماركيز يجتمع مع بارديم اكثر من الوقت الذي قضاه مع المخرج نيويل، فالكاتب الكبير ادرك ان مفتاح تفوق الفيلم يكمن في صورة فلورينتينو اريثا وكان عليه ان يحمل المهانة والفشل وفقدان حب كان في متناول اشعاره ومن ثم اتصاله الطويل المدى مع نساء كن يداوين غرامه المرجو منذ امد طويل.لذلك بدأ فلورينتينو كعازب محترف غريب الاطوار في الرواية وكان يضلل نفسه كثيرا، ويبخر رغبته باستخدام نساء مختلفات كوكيلات لحبه الضائع ولو برز في عصرنا شخص مثله لتهاوى عليه الاطباء النفسانيون وسيكون مصنفا من الصحافة وشرطة المدينة كمهووس رسمي نصفه تهيمن عليه علاقة حب والنصف الآخر مازوشي تجدر مراقبته. يقول فلورينتينو في واحد من حواراته بانه 'لا شيء اكثر صعوبة من الحب'، ولهذا يقترح الفيلم حججا مضادة، وبهذا المعنى يمكننا استخدام اسلوب ماركيز في الدعابة وتحويل الجملة كالتالي: لا شيء اكثر صعوبة من تحويل الحب في الروايات الى الشاشة، وهذا ما كان يؤرق خبراء هوليوود لنحو 22 عاما. لا احد ممن كانوا ينتظرون ظهور الرواية على الشاشة استطاع الاستعجال، كمصير فلورينتينو نفسه الذي انتظر 51 سنة، لكن الحب جاء في زمن الكوليرا، كما جاء الشريط في زمان لا احد يمكنه تصديق حكاية التجريد الرومانسي والاحباط الذي يتحول بعد صبر طويل الى انتصار، ان الجمهور المعاصر قد يسخر من هكذا حكايات او يقابلها ببرود وباحسن الاحوال بدهشة غير المصدق. اي من سكان الكوكب الحاليين بمستطاعه صرف نصف قرن على قراءة الشعر الرومانسي واغواء النساء بحثا عن سيدته العظيمة، الا يبدو الامر مملا للجمهور المعاصر؟ نعتقد ان هذا سر اجتماعات ماركيز الطويلة مع بارديم، لكون فلورينتينو امتلك مفتاح نجاح الفيلم او سقوطه، وبدون تردد حقق خافيار بارديم فوزا مذهلا لا يقل شأنا عن الانتصار الخرافي لفلورينتينو، فقد امتلك الممثل والشخصية التي لعبها العنصران الرئيسيان للظفر: التحدي والامل!

Goya's Ghosts


نحن في إسبانيا 1792 لنتابع ميلودراما يقدمها المخرج التشيكي المميز الذي هاجر إلى الولايات المتحدة في فيضان موهبته، المجنون الذي بدأ مهنته بالدراسات الرفيعة في ديناميكا الموجة الجديدة للسينما وتفوق في دراسته عام 1965 ميلوس فورمان صاحب الإنجازين السينمائيين الفذين 'أمادويس' و'الطيران فوق عش الوقواق'، الشريطين اللذين منحاه ثماني جوائز أوسكار والذي لم يخرج أي فيلم منذ 'الدوران حول القمر' عام 1999 وبانت السنوات الثماني التي قضاها بلا عمل على شريطه الجديد بسبب ذبوله المحتملفي المشاهدة الأولى للفيلم ينبثق انطباع بأن في الشريط البالغ طوله ساعة و 54 دقيقة، الكثير من السياسة والفلسفة الدينية والتبختر في صالات اللوحات الخالدة تدار بأسلوب المسلسلات التلفزيونية المسرفة الإطالة تنقل صور الفوضى الأخلاقية واليومية لإسبانيا الرازحة تحت حكم ملكي فاسد وتجبر الكنيسة اللذين كانا يعممان الظلم. وينشغل فورمان كثيرا ليعطي مساحة واضحة لآلام القرن الثامن عشر محاولا الانفلات منها لعكسها على عصرنا بطريقة انهيال التاريخ في الراهن ساعدته مخطوطة كتبها جين كلود كارير بتعاون ثان مع لوريس ويل بو ومشاركته المباشرة في كتابة السيناريو.لكن الانطباع الأول سيزول ليحصد الفيلم على أقل تقدير وصفا جميلا جدا منذ افتتاحه بتصفح لوحات غويا واستقصاء جناح لوحاته، وهناك تصرف مقبول بالسيرة الخاصة لغويا من قبل المؤلف ولا يلاحظ عبثا كبيرا في تاريخ هذا الرجل ولا بتلك الأحداث التي جرت في عصره.

حزمة مواهب كبيرة
تبرز موهبة خافيار بارديم (رشح للأوسكار كأفضل دور رئيسي) بالتلاعب والتناغم الرائع لأداء الصوت وإلقاء مدعم بتمثيل على نمط المسرح البريطاني وكنا نحسب أن لورنس أوليفيه حاضرا في 'هنري الخامس'، لكن على الرغم من محاولاته ظهر مثل شكسبيري مزيف ولكنه ذكرنا ببيتر أوتول في 'الأسد في الشتاء' وريتشارد بيرتن في 'مرة من الأيام الألف'، محاولا استرداد الوزن الثقافي الكبير للأزمنة الخوالي لبيرتون وأتول وآخرهم ميريل ستريب الذين خلقوا الجمهور المثقف، مقدما دور الأخ لورينسو الكاهن الداعر، بينما جسد شخصية الفنان الإسباني فرانسيسكو خوزيه دي غويا 1746 ـ 1828 (ستيلان سكارسكارد) ككاثوليكي مستقيم ينكر إيمانه الصارم أحيانا لاسيما حينما يتم اتهام بنت صغيرة بأنها يهودية لكونها لم تتناول صحن لحم خنزير فظيع المظهر في حانة. وتكاد ناتاليا بورتمان تثبت في كل مشهد أنها ممثلة مسرحية من طراز خاص مقدمة دور إنيس بلباتو ابنة تاجر محلي ثري يستخدمها غويا كموديل للملائكة الذين كان يرسمهم على جدران الكنائس.سكارسكارد سيحتفظ بابتسامته قدر ما يستطيع وأسلوبه في التمثيل فيه ثقة فنان كبير قادر على خرق القواعد وبلا مبالغة كان حريصا على أن تخرج الأحداث ابتداء منه وهو لم يكن شريرا في عالم شرير بما يكفي حوله، لذلك لم يعترض على بعض الدناءة العرضية التي لم يجهد في إقناع نفسه على رؤيتها أو التعايش معها.

الروعة البذيئة
يبدأ الفيلم بعرض رسومات غويا وبعدها مباشرة كان كبار الكنيسة الإسبانية يدينون تخطيطات غويا التي صورت تعذيب المنشقين والزنادقة وحديث حول حث الكنيسة الكاثوليكية الرومانية بتحصين نفسها وتنشيط عمليات الإقصاء لتنقية الأرض منهم.يلي ذلك مشهد رمي جثة حيوان في واحد من بساتين الملك البليد كارلوس الرابع لكي تتجمع عليها الطيور ويصطادها بشبق لكون الملكة ماريا لويزا فضلت العقبان لعشائها وهو إيحاء مبكر من فورمان وموفق إلى حد بعيد لتهيئة المشاهد للدنيا الفاجرة التي سيقدمها فيما بعد والروعة البذيئة لبيوت الملوك، فيما شوارع المملكة تعج بالحياة الساقطة وسط الموت الرخيص.
الحياة على طبق خنزير
لم تفعل إنيس شيئا سوى أنها عبرت عن اشمئزازها من طبق الخنزير، ولأنها لم تجده شهيا، فضلت حساء الدجاج عليه وبعض البطاطا، لكن عينا كانت تراقبها كتبت تقريرا إلى الكنيسة لتتهمها في اليوم التالي أنها تخفي سرا معتقدها اليهودي لتبدأ بعد ذلك سلسلة رهيبة من عمليات التعذيب التي عرفت بها أقبية الأديرة في القرن الثامن عشر।ستعلق إينيس عقوبة على شهيتها المفقودة وستسحل عارية وسيغتصبها الكاهن لورينسو وتجبر على توقيع اعتراف بأن جدها قدم إلى إسبانيا عام 1620 من أمستردام وأخفى أصلهم اليهودي بعد اعتناقه الكاثوليكية.في هذه الأوقات كان غويا يطلي الكنائس بوجوه الملائكة وفي الوقت نفسه يقدم نفسه على أنه 'الرسام الملكي' على الرغم من أن الملكة ماريا لويزا (بلانكا بورتيللو) المعروفة بعدم جاذبيتها لم تمتدح اللوحة التي رسمها لها وهي على حصانها لأنه أظهر عمرها الحقيقي بملامح وجهها الأصلي.
فلسفة التعذيب
والد إنيسا (خوزيه لويس غوميز) سيكون في عصر اليوم ذاته عند غويا لأنه يعرف بأنه يرسم لوحة للأب لورينسو الذي كان يشرف على تعذيبها وفي هذه اللحظة كان يغتصب ابنته في السجن।لم يطلب والدها من غويا سوى رؤية هذا الرجل، مشيرا إلى البورتريه الذي أكمله وبعد توسل قبل غويا ترتيب لقاء عشاء في بيت التاجر الثري.هنا بدأت محاورة عميقة جدا بين خوزيه غوميس وخافيار بارديم الداخل تماما في شخصية الأخ لورينسو والمصر على أن الله سيعطي القوة لقول الحق فقط، لكن التاجر يعتقد أن التعذيب سيجعل المرء يقر بأمور غير موجودة وبأي شيء إذا أجبره العذاب على ذلك. ولكي يثبت نظريته أمر أبناءه بتعليق لورينسو في الثريا المتوسطة صالة الطعام وأجبره على توقيع ورقة يقر فيها أنه قرد!سيتركه والد إنيسا ويعده بحرق الورقة ما ان يرى ابنته في البيت، لكن لورينسو لا يستطيع إطلاق سراحها ففي هذه الأثناء حملت منه في سجن الكنيسة وهو الكاهن الكاثوليكي المعروف، لذلك قرر الهرب إلى فرنسا ليلتحق بالثورة هناك وقبلها سيزورها للمرة الأخيرة في السجن ليغتصبها من جديد بالعبارة المشفرة التي أصبحت تعرفها: 'لنصل معا'!يداهم حرس الكنيسة مرسم غويا ويسحبون بورتريه لورينسو ويحرقونه وسط الساحة بموسيقى صفير الحضور واستهجانهم من الهارب وخائن الكنيسة وفي غضون سماعه للصفير سيفقد أهم رسامي عصره فرانسيسكو غويا السمع.

بعد 15 سنة
ستدخل جيوش نابليون وتحرر إنيسا وغيرها من سجون الكنيسة في مشاهد فيها تأثير فيكتور هيغو والكسندر دوماس لتزور بيتها القديم। ستراه وقد نهبه العامة وقتلوا والديها وأخوتها ولم تجد غير باب غويا لتطرقه فيضع في يدها قطعة معدنية متصورا أنها شحاذة، لكنها تومئ إليه بلوحتها التي رسمها لها قبل 16 سنة، فيدعوها للدخول ويعد لها شيئا تأكله ويعطيها قلما وورقة لتسرد له كتابة ما حصل لها ولم تذكر سوى أنها تبحث عن ابنتها التي أخذوها منها في السجن ما إن بدأت تشم حليبها.وفي هذه اللحظات سيترأس لورينسو العائد إلى إسبانيا مع القوات الفرنسية محكمة تصدر حكم الإعدام بالأب جريجوريو وكل زملائه السابقين في الكنيسة. لكنه سيؤجل تنفيذ الحكم بعد أن زارته إنيسا بصحبة غويا لتخبره بأن لهم ابنة سيلقى بها مجددا في مستشفى المجانين. ويزور الأب جريجوريو في السجن ليعلم بحقيقة ابنته التي هربت بعمر 11 سنة من أحد الأديرة واكتشفها غويا بعد أيام في منتزه مدريد الرئيسي الذي تتجول فيه داعرات المدينة.لم يترك غويا ملاكه إنيسا، زارها في المستشفى واشتراها من مديرها الجشع، وأخبرها أنه عثر على ابنتها، لكن لورينسو سبقه إليها وأودعها مع فتيات أخريات في عربات التهجير إلى أميركا. سيعترض غويا على إجراء لورينسو وكيفية سوق الإسبانيات كعبيد للأميركان، لكن القافلة ستقع في الطريق بيد القوات البريطانية التي كانت تزحف إلى مدريد لتشاهد البنت إليسا التي فقدت ابنتها هي الأخرى في عملية الاعتقال من فوق شرفة مع ضابط بريطاني تشاهد إعدام أبيها الذي لا تعرفه، لكن إنيسا ستأخذ الرضيعة من تحت طاولة الحانة لتهتف بلورينسو أن يرى ابنتهما، يحدق بها قبل شنقه ويبتسم لها.

أهداف فورمان ـ كارير
ساعد التصميم الصحيح لليزلي تشاتز على إظهار الفيلم بالعمق المطلوب، وتابع مهندس الصوت عمله بالدقة نفسها، فكانت أبواب الكنيسة تفتح وتغلق على الطرق الواسعة وأصوات الأجراس البعيدة وصوت الأكتاف وحفيف الأقدام وشغل خافيار أغيرساربو في إدارة التصوير حسن جدا وخاصة تركيبه الألوان والتظليل ومراقبة تمثيل العيون والصور المقربة التي كانت تطمس صعوبات الديكور।أما السيناريو فثمة شك في أن فورمان والكاتب الأسطوري للسيناريو جين كلود كارير افتقرا إلى رواية القصة على الشاشة، فثمة وهن في بعض المشاهد وخاصة استدعاء لورينسو لابنته إلى عربته كمومس ومفاتحتها مباشرة في الشارع العام بأمر تهجيرها إلى أمريكا وإفلاتها منه بكل بساطة بعد أن تدارك فضيحة مع مومس في شارع عام وهي لا تعرف بأن الشخص الذي هربت منه يكون والدها. ولكن فورمان وكارير ظفرا بهدفيهما حينما تحركت الكاميرا في مشاهد كثيرة أخرى كانوا واثقين فيه بالتوازن بين الحاجة للتوثيق واعتبار غويا شاهدا على التاريخ والالتزام بالحس الدرامي ـ الفني.غير أن النقد المتبصر لا تفلت منه عملية النفخ الميلودرامي بحوادث مبنية على الصدف التي تلد صدفها. ويحدث تعاقب الأحداث الهرمي على المصادفات الكثيرة وحدها، أما الخيوط الأخرى التي كانت مهمتها تشبيكها، فقد ظلت عالقة في شريط مليء بالميلودراما وأناس يعيشون حياتهم ضد خلفية التاريخ والرياح والمصير.

إرغام السيناريو
ولم يعان أيا من كاتبي السيناريو على الأرجح أن تكون القصة عن غويا لاستكشاف حياة الفنان أو أن يضعوه مراقبا تاريخيا لما حصل في زمانه، وفضلا الخيار الثاني رغم أنهم وضعوا اسم غويا في عنوان الفيلم، ولا نرى بأن الأمر أضر بغويا أو الفيلم।كما أنهما حشرا الكثير من المواضيع البالغة التعقيد فلسفيا وتاريخيا في شريط واحد ربما لا يتحمل محاكمة: الكاثوليكية، تاريخ إسبانيا، لوحات غويا، تاريخ الكنيسة والحروب الكثيرة والغزوات التي حدثت في نهاية القرن الثامن عشر. فهناك دائما المحور القصصي الذي يلتصق بالشريط، لكن هذا اللاصق غاب بشكل مؤلم في 'أشباح غويا'.إن إرغام السيناريو على حشد كل هذه الموضوعات الكبرى في فيلم واحد كتحفة محيرة تتطلب المشاكل الفلسفية التي طرحها الاستعانة بأفلاطون ومن الجانب الآخر وجود مرغم آخر وهو مشاهد حسن الثقافة، حزين وممتلئ الإحساس بالمعرفة وهو مشاهد نادر في عالمنا.هذا الأمر ليس بالشيء السيىء، لكنه سيف ذو حدين، ولأجل ذلك صرف ميلوس فورمان بمساعدة منتج متعاون فائز بالأوسكار منذ مدة طويلة (ساول زانيتز) أشرف على التصوير من 5 سبتمبر حتى السابع من ديسمبر 2005 في المدن الإسبانية: مدريد، سالامنكا، تيليدو وغونيسا، مبددا الكثير من الأموال ليعيد إنشاء إسبانيا نهاية القرن الثامن عشر مستخدما المجاميع البشرية الهائلة.من ناحية أخرى ليس ل 'أشباح غويا' غرض واضح ولا رسالة بعينها ولا شخصية مركزية يعول عليها لحمل الشريط (تقريبا لم تتعلق القصة بغويا شخصيا وبدا الشبح الأكبر في الفيلم هو غويا نفسه) واعتمد على عنف الماضي والغزو النابليوني المشؤوم لإسبانيا عام 1807 عندما اعتقد الفرنسيون بأن الزهور ستلقى أمامهم في الطرقات بعد عتقهم من الحكم الملكي الفاسد والكنيسة المستبدة.وعلى الرغم من أن الفيلم كله يدور في إسبانيا وعنها، إلا أننا نشاهد ممثلا إسبانيا واحدا فحسب، والذين لعبوا الأدوار الرئيسية: أميركي وإنكليزي وسويدي. وهذه واحدة من المشاكل التي يعانيها الوضع السينمائي في العالم، فالكلام بالإنكليزية (وإن كان مزيجا عشوائيا لمختلف اللهجات) يضمن للمنتجين بيعه في أي مكان، لكون الإنكليزية أصبحت لغة الأعمال والجريمة والجنس والحروب.

الأسئلة الراهنة
يطرح الفيلم بعض الأسئلة الجانبية، ولعلها كذلك إن لم تكن الرئيسية: هل كان فورمان يلمح بالشجب لأعمال الغرب الذي رفع لواء الحرب على الإرهاب بتذكيرهم بالإرهاب والاضطهاد الديني الذي كانت الكنيسة تمارسه ضد الأناس الذين اعترضوا عجلتها الوحشية؟ إن المحاضرة التي ألقاها لورينسو بعد دخول جيوش نابليون إلى مدريد تظهر كخطاب سياسي ألقاه جورج بوش بعد دخول القوات الأميركية إلى بغداد وهو تدخل مبهم أولجه فورمان بشكل تقريري।

الخاتمة
ستبقى خاتمة هذا الفيلم واحدة من أروع صور السينما ولوحة باهرة اجتمع فيها كل عمق هذا الفن والموهبة العظيمة لفورمان.لم يعتذر لورينسو للكنيسة وفضل الموت على ذلك، لكن ابتسامته على منصة الإعدام لمصدر صوت إنيسا كانت بمنزلة إعلان توبة أمام قلبه والفظائع التي اقترفها بحقها.وإنيسا الوحيدة التي رافقت جثته التي سحبتها عربة بحمارين وكان رأس لورينسو يتدلى من العربة ليبصر في لحظاته الأخيرة مدريد بالمقلوب مع موسيقى مشكلة من غناء أطفال على الرغم من كل ما فعله معها وغويا خلفهما. وكأن المعادلة الرهيبة العمق تسير وفق الهارمونيا التالية : تسير نحو وفائها ممثلة الحياة ويلحقها غويا متشبثا بالحياة برمزها الأثيري والاثنان يمشيان في جنازة الحياة نفسها، برذائلها وقسوتها ووحشيتها وندوبها ووفاء الملائكة الذين انصهروا جميعا في اللوحة الفائقة الجمال التي التقطها غويا لأشباحه.






Hable con ella - Talk to her


بساطة عنوان الفيلم الكاذبة تقودنا إلى نص معقد وصعب جدا وضعه في المراتب المتقدمة في كل مهرجانات السينما المحترمة والنقد السينمائي الجاد। ومنذ اللحظة الأولى انطلق بقوة ولا نعرف لماذا تعمد صانع الفيلم والماهر الأكبر بيدرو آلمودوفار إيذاء كل مشاهديه من الثانية الأولى وسيجد أي مشاهد نفسه في «حالة بكاء» ما أن تُطفأ أنوار صالة العرض مباشرة. انه شريط جريء، غريب وغير متوقع من الإسباني المذهل الحسن المخ الذي فاز قبل هذا الشريط في عام 1999 بأوسكار أفضل فيلم أجنبي عن شريطه «كل شيء عن أمي» ووطده فيلم «اللحم الحي» كواحد من أهم المخرجين المعاصرين.و«تكلم معها» المختار لهذا اليوم، قابل للجدل في كل شيء، لاسيما وجهة نظر آلمودوفار (بصفته كاتب السيناريو والمخرج) الخاصة - وربما غير التقليدية - عن الحياة ومجازفاتها والعلاقات وغرابتها والحب وصدفه المفاجئة. لدينا الممرض بينغنو (خافيار كامارا) والصحافي والكاتب ماركو (داريو غرانينيتي) حيث تشده الأقدار إلى عيادة خاصة زبائنها كلهم يقضون حياتهم في الغيبوبة. بينغنو مهمته في العيادة الاعتناء براقصة الباليه وبنت طبيب نفسي محلي ثري أليسيا (ليونور واتلنغ) والتي كان يلاحقها بخجل مريض قبل حملها إلى العيادة بعد أن تعرف عليها في الشارع الذي يفرق بين شقته المطلة على صالة التدريب في المبنى المقابل، وأسلوب التعارف بسيط: سقطت محفظة نقودها ولم تلحظها قبل بينغنو الذي راهن على هذه الفرصة للاقتراب منها، وكانت هذه الحادثة بداية عشق اعتقد أنه متبادل. لكن الشريط لم يهتم بسرد الأحداث بالطريقة المتسلسلة ليظهر أليسيا بلا مقدمات طريحة الفراش تحت الغيبوبة بعد حادثة سيارة وعاشقها الممرض يعتني بكل التفاصيل الخاصة بمريض خارج عن نطاق الحياة، يتطوع بتعويض كل النوبات الإضافية ليعتني بها طوال 24 ساعة لمدة أربع سنوات! تتضمنها أكثر من عودة بطريقة الفلاشباك، لم تكن مصوبة بالتأكيد بتعمد وحملت سلاستها وأهميتها واختيارها الصحيح في مسرى الشريط. في هذه الأثناء داس ثور بعد انطلاقته في الحلبة مباشرة صديقة ماركو ومصارعة الثيران ليديا (روزاريو فلوريس) تاركا آثار قرونه فيها وجعلها نزيلة العيادة لتجاور أليسيا التي كانت قد تعودت على الغيبوبة. وأليسيا تمثل الفكرة الشائعة التقليدية للأنوثة اختيارها راقصة باليه ليس مصادفة، بينما زج ليديا كمصارعة ثيران ينهي الجدل في الثنائية المتناقضة بين المرأتين وحتى في اختيار الممثلتين.
ثمة الكثير من الأفلام تحدثت عن قضية الغيبوبة والأكثر عن الحب والعلاقات بين الرجل والمرأة، لكن شريطنا اليوم الذي رشح لأوسكار أفضل مخرج، غير عادي وخاصة تنفيذه واكتمال كل عناصره، لقد طور السيناريو علاقة بينغنو وماركو اللذين يحبان امرأتين في الغيبوبة (ظرف مشترك) ويتكلمان معهما لسنوات من طرف واحد خالقا رابطة قوية بين الرجلين وبين ذلك التردد الأعظم وانهيال العواطف نحو امرأتين فاقدتي الوعي، وما أروع تلك المشاهد التي يأتي فيه عنوان الفيلم براقا حينما يخاطب أحدهما الآخر: تكلم معها!لقد كان ماضي بينغنو في حب أليسيا أكثر غرابة من ماركو (ماضيه الشخصي يعاني من متاعب جمة) الذي لم يواجه مشكلة في إقامة علاقة مباشرة وصريحة مع ليديا، رغم أنها عاطفيا مؤثرة وتركت جراحها العميقة لديه بعد الحادثة، ولأن الممرض كان يقضي ساعات يومه يتلصص على النافذة المطلة على صالة التدريب، دون أي بادرة منه ليقدم نفسه لها كعاشق رسمي وارتضى اللجوء إلى هوس متابعتها عن بعد، وكانت هذه طبيعة شخصيته الخجولة والطيبة والمترددة وغير المقدامة والتي ليس فيها جرأة، ولأنه قضى 20 سنة من حياته يعتني بوالدته الطريحة الفراش।
كان لدى الممثلين اتزان كامل لحمل شخصيات في منتهى التركيب والصعوبة وأدى خافيار كامارا ملامح الرجل الساذج والقلق ونعتقد أنه كسب عطف من شاهده، وكان داريو غرانينيتي يحمل جراحه معه في كل المشاهد التي ظهر بها والتي كان يحاول أن يكتشف نفسه وحقيقة علاقته مع ليديا، بينما العمل الكبير كان على عاتق ليونور ويتلنغ هو صرف معظم مشاهد الفيلم في الغيبوبة (عارية على الأغلب) أو تؤدي رقصات تعبيرية لها علاقة بالسياق। وبلا شك يفهم بيدرو آلمودوفار كل التفاصيل التي لم نتعرض لها في حياتنا الخاصة، كالعالم الاستثنائي لمصارعي الثيران والطرق التي تتم فيها العناية مع من يعيشون في الغيبوبة، ومن الواضح أنه روى القصة على الورق، ومن ثم جسد كل أفكاره على الشاشة كتفاصيل مربحة للفن، حينما يقدم مصارعة الثيران الأشهر في إسبانيا والتي يقف لها مئات الآلاف من الرجال تذعر من رؤية أفعى في بيتها، هنا ليس المهم تماسك ماركو في تلك اللحظة، قدر الرهان الذي وضعه السيناريو على هذه الحادثة التي حددت الاثنين برمز الأفعى والشال وطعنة الثور اللاحقة التي تغيبها عن الحياة. وواضح أن شجاعتها في مواجهة الثيران تنهار لدى رؤيتها أفعى تأكيد للغريزة الأنثوية التوراتية.هو ذا ما نسميه الأداء الفعال الهادئ الموزون بالاتساق وجمال الحركة والثنائيات المتضادة كتدفق الحياة والموت في الربط بين المشهدين البارعين لاستحمام الممرضين لأليسيا العارية في الغيبوبة وارتداء ليديا ملابس مصارع الثيران، ويا لها من كاميرا صورت الحياة والموت في لحظة واحدة!
قدرة الفيلم
يفتتح الشريط بمشهد من مسرحية «نينا باوش» لموللير حيث الراقصة العمياء (تمهيد لحالة ليديا وأليسيا) في زحمة الكراسي تؤدي الحركات الإيقاعية المنضبطة ورجل خلفها يزيح عنها الكراسي والجدران التي تتلقفها، ومن الواضح أن آلمودوفار حرك كل شيء في الدقائق الأولى لكي تلائم قصته اللاحقة ومن المؤكد أنه انتزع دموع حتى لجان التحكيم والنقاد الذين قرروا معالجة هذا الفيلم الحزين من افتتاحه حتى تدرج أسماء تتر النهاية (كما البداية النهاية برقصة) الذي كان لوحده مشهدا ختاميا مبجلا وواحدة من النهايات الأثيرة في السينما، مع الإشارة إلى ان هذا الطراز من الميلودراما كان قد نبغ فيه وأسسه المخرج فاسبيندر. من جهة الجمهور يجلس ماركو و بينغنو قبل أن يتعارفا وكان الأخير ينظر إلى دموع الأول، في هذه النقطة كانت دموع ماركو علامة على دخوله الشريط مجروحا وبينغنو مذهولا وما بين الجريح والمذهول تكرس إرادة الرجلين، إلى نفسيهما أولا ومن ثم إلى اهتمامهما بحبيبتيهما العاجزتين. وعن البكاء أيضا، فقد أخبر بيدرو آلمودوفار في مقابلة مع الكاتبة السينمائية لورينزا مونوز أنه طوال الفترة التي كتب فيها السيناريو كان يبكي! إن القصة مأساة رجال يكرسون حياتهم لشخص آخر لا يعلم باهتمامهم وحبهم ولا بالذي يجري في الدنيا، هذا الحب المتفوق على الحب حينما تمضي سنوات طويلة وأنت تتكلم مع حبيبتك التي لا تعلم حتى بوجودك، إنه الحب حينما تعيشه في الآخر أو من خلال شخص آخر رغم أنك متيقن حسب كل تقارير الأطباء، إنه لن يفتح عينيه مرة ويصافحك بهدوء ويقدم لك الامتنان، هذه قدرة الفيلم الذي احتفى به العديد من المهرجانات السينمائية.
قصص مشابهة في السينما
وتذكرنا القصة الرائعة «تكلم معها» بواحدة من أهم مآثر السينما التي قدمها لنا فرانسوا تروفاوت «الغرفة الخضراء» - 1978 مستندا إلى رواية هنري جيمس «مذبح الموتى» حيث بطل الرواية والفيلم جوليان يبني أضرحة لكل أحبائه ويملأها بالصور والمقتنيات الشخصية ويصرف كل وقته هناك بالقرب من حاجياتهم، شبيهة مأساتنا بميتي عندما يقع في حب سيسيليا ويعرض عليها أثمن هدية في الحب: أن يموت معها!أن بينغنو في قصتنا الراهنة يشبه ميتي حيث يكرس 24 ساعة من يومه لخدمتها كحافز ماركو الأكثر تعقيدا، والمريع في هذه القصة أن الرجلين يبدوان سعيدين لمنح كل حياتهما لنساء لا يعرفن من أمر هذه التضحية شيء। هو نكران ذات صاف لا ينطلق من قلوب عادية، هو حب مخيف الرحمة وحتى تلميحاته الجنسية كانت إنسانية ولم تشكل أي معضلة أخلاقية، فالولاء للحب كان مطلقا وكانت الطاقة لدى ماركو وأوضح منها لدى بينغنو مدفوعة بشيء عظيم هو الأمل.

الجرأة
ويبدو أن النساء يلهمن آلمودوفار في كتابة الكوميديا حينما يمنحهن البطولة الكاملة، بينما الرجال يمنحونه الحس المأساوي المركز الذي ظهر عليه «تكلم معها»। الأمر نفسه يتشدد فيه حينما يكون رواة أفلامه من الذكور. وحسب معايير بيدرو آلمودوفار لم يكن الفيلم القصير بالأسود والأبيض الذي كان يسير موازيا للشريط الأصلي فيه أي جرأة ولعله تقليدي، لكن في المعايير العامة كان هذا الفيلم الصامت القصير لرجل قصير يحب امرأة عملاقة (في حقيقة الأمر الحبيب يتقلص أمام حبيبته) التزاما كليا بأسلوب المخرج الإسباني المدهش الذي دمج شريطين بميلودراما استدعاها لتأدية مهمة السخرية المطلقة غير المحتملة، إنه استدعاء معقد ونفذ حسب مادة صعبة جدا مكتوبة على الورق وتطلبت مجموعة من الثواني عملا عالي التقنية من مجموعة متكاملة من المتخصصين الذين يظهرون هذه الخدعة السريالية، لينجحوا في ابتكار أسلوب سينمائي دعم الشريط وخدم غرضه الذكي بطريقة مهذبة للغاية. (لا ننسى ولع بيدرو الطفل بمشاهدة الأفلام الصامتة).

هذا الكئيب

إن مخرجنا الإسباني أسود وكئيب وضرباته موجعة وشاطر ويقدم عملا بلا مؤثرات السينما المعاصرة وصخبها، وبهدوء يعالج أعقد العلاقات الإنسانية: الصداقة، الوحدة، أهمية الاتصال في العلاقات والحب। كلها تبدو مواضيع شخصية وخالية من المرح الذي تهواه السينما التجارية. ينجح مجددا بعد أن أبهر محبي السينما في شريطه «كل شيء عن أمي» مركزا على ولعه الخاص بالنساء، من وجهة نظر الرجل الذي ينصهر في الأنثى. وسنحاول أن نفهم لماذا لم يخصص آلمودوفار وقت الشريط عند سرير ليديا كما فعل مع سرير أسيليا، عدا اللقطات التي يظهر فيها ماركو في المستشفى وتأمله الرومانسي في وجه المرأة التي أحبها وفقدها إلى الأبد، والغريب أن ماركو يجد راحة في التكلم مع بينغنو من التحدث مع ليديا. التفسير المتاح لهذه الملاحظة التي تعمدها مدير العمل، أنه قدم رجلا أقل شذوذا من رجاله في أفلامه السابقة، مركزا على التشابه في العلاقة بين: الرجل - المرأة والرجل - الرجل وبين حالة الاستيقاظ التي تربط العلاقة الأخيرة والغيبوبة التي تورطت فيها الأولى.


تشكل أسلوب آلمودوفار
لقد تشكل أسلوب آلمودوفار السينمائي بعد صراع البحث عن الهوية الخاصة للسينما الإسبانية بعد رحيل فرانكو في السبعينات وخروج الأفكار العظيمة من تحت الأرض ولاسيما الميلودراما المتمتعة بالحماس الثوري التي طغت على أعمال تود هاونس وفرانسوا أوزون وخاصة في أفلام «بعيدا عن السماء» و«8 نساء». غير أن آلمودوفار الذي عمل في بداية حياته مع المخرجين المذكورين تخطى فكرة الميلودراما المعتدلة واللامعة والواضحة وخلق موانعه وألصق شخوصه جيدا في بيئتهم الميلودرامية.وهو يشبه إلى حد كبير المخرج الإسباني العبقري لويس بويول في خلق الأفلام غير المألوفة بهدف سريالي استفزازي صادم للجمهور وهو امتداد للمواضيع التي برع في اختيارها مخرجون كبار مثل دوغلاس سرك وفاسبيندر، موظفا مثلهم، الموانع والمحظورات في السينما الأوربية عموما (عدا الإيطالية) كما جسدها في أفلامه الأولى: «كعوب حذاء عالية»، «نساء على الحافة»، «انهيار عصبي» والشريط المتفوق جدا «اللحم الحي» والتصق بها في «كل شيء عن أمي» الذي ظفر بالأوسكار بالطريقة نفسها قدمها في «تكلم معها» ماشيا صوب الأرواح التائهة والغافلة وبمزاج الهوس المقدس للحب الثابت والألم والوحدة حينما يتحولان إلى علاقة وإن كان مفرطا في التجسيد، لكنه مبدعا، وبذلك كان بالنسبة للسينما العالمية مفاجأة من العيار الرائع بنظرته الروحية الفردية وقوة إيمانه بأفكاره وقابليته على ترك الأمور تتحرك منذ البداية لينهي عندها فكرته!
كما أن أفلامه تتحرك بسهولة بين الماضي والحاضر وسلسلة الخيالات العرضية والأحلام القافزة وتشوش الأفكار وهذه أمور في غاية الصعوبة تطورها في شريط سينمائي، لكنها تخرج من آلمودوفار كما لو كان ينبغي أن تكون بهذا الشكل فقط، هنا الحس الراقي الذي يكافح من أجل تصويره ولم يخب أمله على الإطلاق ولا في ميليمتر واحد في الشريط। وكم تمنينا من أفلام ألا تنتهي، وكم شعرنا بالأسى من انتهاء أفلام رائعة كثيرة للغاية، إن هذا الاعتقاد هو الوحيد الذي يلازم أي شخص يشاهد أفلام هذا الإسباني الموهوب الذي يقودنا من المرح إلى الشهوانية إلى الحزن المرير محتفظا بأقصى احترام للجمهور نظرا إلى سلاسة انزلاق شريطه في هذه الموضوعات.
إلى النهاية

ستقترب الدقائق العشرون الأخيرة التي أمضى مؤلف ومخرج الفيلم في الإعداد لها ثلاث سنوات، ليجد المشاهد نفسه في حالة من عواطف الحزن المتناقضة ويكتنفه إيمان سام وأمل متجدد وأذى مصفف بعناية ويطلب أي من شاهد هذه الرائعة أن يكلل صبره بمكافأة في النهاية، لكن ما الذي سيفعله آلمودوفار؟ سيصدم مشاهده بلا رحمة وسيعصره بلا مودة متآمرا مع موسيقار الفيلم ألبيرتو ايغليسيس وكأنهما دردشا كثيرا في كيفية تحطيم الجمهور وانتزاعه من كرسيه وإلقائه بالصوت والصورة في صندوق العجائب الباهر لنتكلم مع كل الذين نحبهم ولا يسمعوننا مرددين عبارة بينغنو المسكين الذي أنهى حياته بابتلاع الأقراص في السجن: تكلم معها.. تكلم.. ربما لا تسمعك، لكني اعتقد أنها تحاول ذلك!