الخميس، 7 مارس 2013

هؤلاء غيروا الأدب - ما تبقى من "البيت جينيريشن"



كما تغيّر كل شيء في العالم بعد الحرب الكونية الثانية، ظهر في الولايات المتحدة عام 1950 أحد أهم الأجيال الأدبية في القرن العشرين، بوعي يحمل الكثير من الأسئلة والصدق والصراحة المؤلمة، وكذلك الجمالية والرصانة الفنية، في زمن بدا فيها الوعي يشكك ويجري اعادة تقييم شاملة لهياكل المجتمع التقليدية.

وكما شهد الاقتصاد الازدهار، فقد تكفل طلبة الجامعات بتحطيم أسس المادية، وبنوا وضعا ثقافيا أشبه بالاستجواب، وترسيخ الشك في كل المنظومة الرأسمالية المدمرة للروح البشرية، والمنكلة بالمساواة الاجتماعية، ناهيك عن نبذهم للثقافة الاستهلاكية السائدة آنذاك.
وبلا احتشام وبجرأة استثنائية، بدأوا بالكشف عن «المحرمات» في عالم الأدب والفن، وبدا واضحا أن عجلة «المطهرين» سائرة بلا هوادة، للخروج بأدب أكثر تجريبية ووضوحاً، معبرا عن كل شيء، في حين كانت موسيقى الجاز تعزف تحت الأرض، بعيدا عن كاشفات الرقابة واستفزاز السلطة، ولم يكن أحد في عام 1950 يدرك أن هذه الأصوات الأدبية والفنية مقدر لها أن تلعب دورها في تغيير الأنماط الثقافية، وتتوسع من ناحية الانتشار، حتى يومنا هذا
اللقاء المبكر


التقى مؤسسو «بيت جينيريشن» في جامعة كولومبيا عام 1940، وشكل جاك كيرواك وآلان غينسبيرغ نواة المجموعة، والأول من أطلق اسمها. ومن الأعضاء الأصليين لها: لوسيان كار وجون هولمز ونيل كاسيدي.
وتجدر الاشارة الى أن غريغوري كورسو كان أول من التقى بغينسبيرغ وحدثه عن ضرورة الكتابة عن قاع المجتمع الغامض، والابتعاد عن قاعات الجامعة المزخرفة. ومع ذلك فقد حافظ عناصر المجموعة على تعليمهم الجيد، حاملين طموح المنحدرين عن الطبقة المتوسطة.
في الأثناء عثرت المجموعة بالصدفة البحتة على وليام بوروز، المسرّح من الجيش لعدم صلاحيته للخدمة ومضيّه سنوات من التيه بوظائف مختلفة، لكنه وجد نفسه في مدار غينسبيرغ وكيرواك، وكان لعبقرية الثلاثة وتقاطعاتهم الابداعية الأثر البالغ في بداية «بيت جينيريشن» القوية.
عناصر تشكيل الرؤية
استندت «بيت جينيريشن» على مصادر متنوعة لتشكيل رؤيتهم الفنية الخاصة بالأدب والثقافة على العموم. فتجدهم مرة متأثرين بشعراء الرومانسية، مثل بيرسي شيللي وويليام بليك، لا سيما في الجانب الجمالي، فيما يتخلل ذلك مداهمات موفقة للسريالية والوجودية والعبثية.
في التوازي، كانت آثار القرن التاسع عشر الابداعية، مصدر إلهام للمجموعة، وخاصة القوية منها، متماشين مع قدرة هنري ديفيد ثورو الاحتجاجية.
في المقابل، كانت أمامهم شوارع المدن الأميركية الغاصة بالرفض والعوز والتذمر والعنصرية والتوق الى التحرر، فلم يكن غيره: ت أس اليوت مرشدا كلاسيكيا لمثل هذه الموضوعات، في حين تركوا لوالت ويتمان دور الأب الروحي الذي يستقر في مرساته قارب مجموعتهم كلما هبّت العواصف
مكتبة أضواء المدينة
وفي سان فرانسيسكو، التقى أعضاء المجموعة في مكتبة «أضواء المدينة»، التي أسسها سياسي مخضرم ومحارب قديم في الحرب العالمية، وتحولت إلى مركز للبيت جينيريشن، وانطلقت من هناك الروح الارتجالية لموسيقى الجاز لكامينغز، الذي كان يعجن الفكاهة بالعتمة، ليقدم صورة مثالية لأميركا منتصف القرن العشرين، وينفخ بما تبقى من حشمة للثقافة الأميركية، وبقدرة كافية عصفت بالرأسمالية التي ضلت طريقها.
ومع تلك العبثية، نالت الجمالية نصيبها الأكبر، فحوّلوا النكتة إلى فن خالد، وتمكنوا من وضع اثقال اضافية تكرس لهم لحظتهم التاريخية.
نقطة التحول
غير أن نشر قصيدة «عواء»، لآلن غينسبرغ، في عام 1956، عدّ نقطة تحول في تاريخ أدب البيت جينريشن والأدب الأميركي بشكل عام. وهي قصيدة طويلة، برأيي، لا تقرأ إلا بصوت عال.
لقد كانت «عواء» عودة للأدب الشفاهي الذي أهمل لمدة طويلة، وبالرغم من دور الرقابة أعاد غينسبرغ تعريفه للإباحية الأميركية، مؤكدا، وهذا الأهم، أن الشعر عند هذه المجموعة الثائرة «في مأمن»، حتى حينما يأخذ الشاعر مستمعيه إلى قاع بلدهم.. وينزل بهم إلى أسفل دركها الممزق، هناك حيث مدمني المخدرات والتائهين والبغايا والنصابين؛ هناك حيث النفور والغضب العارم ضد المنظومة التي تبيعهم وتشتريهم، مستخدما لغة شوارع شائعة، يشعر بها أناس القاع وتسمع بها النخبة والمحافظين للمرة الأولى في الشعر. هناك حيث الأحداث والمسميات المرّوعة التي لم تكن تأثيرات والت ويتمان بعيدة عنها، ويمكن سماع اصداءها في كل كلمة اهتز بها بدن غينسبرغ.
توسيع مفهوم الأدب
وهكذا أثرت الـ«بيت جينيريشن» على بنية المجتمع الأميركي، مع «عواء» غينسبرغ تم توسيع مفهوم الأدب، المقبول منه وغير المقبول، دكّ الرقابة وقابلية تحوير الخطاب العام في كل شيء، فما زال إلى يومنا هذا أنصار البيئة ومناهضو العولمة يعتمدون على قصائد وأعمال المجموعة كأيقونة وشعارات فكرية لنشاطاتهم.
وربما الأهم من ذلك، أعادت البيت جينيريشن للجيل الافتتان بالأدب والفن ودفعتهم للتجريب، وأسست فيهم ما يمكن أن نطلق عليه «الآراء الحديثة» (وليس الأيديولوجيا)، ونمط جديد في الحياة وصل حتى إلى اختيار الأزياء، لقد كانوا حقا؛ الظافرون بالتجريب ومحطمو الشكلية والتقاليد المحافظة المملة.
وساعدهم في ذلك، أن المجموعة المتوثبة كانت تسير قدما، كما لو كانت تشقّ الفراغ، وبرعوا في توزيع الأدوار وتقاسمها بشكل مشترك، فالعباءة السوداء في غضون قراءة الشعر، ما زالت حتى الآن أحد رموزها، والأداء التمثيلي، والمفاجآت المستمرة على المنصة والمسرح والشارع، حيث الهيبيز يحملون ادعاءاتهم منذ مطلع الحرب العالمية الثانية لتغيير النظام والتمرد عليه.