الأربعاء، 1 يونيو 2011

كيف ستكون حال الثقافة مع انتهاء الأنظمة الشمولية؟ 1

الأدب الروسي عاد عالميا فنيا وتجاريا

عامل مشترك جديد يتكون بين دول أوروبا الشرقية والدول العربية.. الأولى أسقطت الأنظمة الشمولية تباعا، ودولنا في طور إسقاط أنظمتها المشابهة (سقطت في تونس ومصر.. والنظام الشمولي لمعمر القذافي يتهاوى وكذلك نظيره في صنعاء)، أو هكذا تأمل شعوبنا، وتتمنى من مثقفينا أن يكون لهم دور في التغيرات الكبيرة التي تحصل، رغم أن كثيرين لم يكونوا طليعة حركة التاريخ، بل ملحقا بالاستبداد وبوقا له.
وسيكون الأفضل، لو أحد ما طرح السؤال: ماذا سيكون حال الأدب مع انتهاء الأنظمة الشمولية أو أكثر تحديدا، كيف تطور الأدب؟
لا حاجة للإثبات، إن الأدب، كغيره من مكونات الثقافة والابداع يزدهر في الحرية، ولو عاش سيرغي يسينين أجواء ديموقراطية لما وجدناه مشنوقا في غرفته المتواضعة في شارع أربات، ولما مات الشاعر فاليري خليبنكوف من الجوع، ولما تدهور الشعر الحديث بانعزال آنا أخماتوفا بعد اختفاء زوجها الشاعر والمسرحي غوميلوف، ولكان متسعا أكثر لأوسيب مندلشتامب لغرز الألم الحقيقي للنخبة الروسية، كما حاول بوريس باسترناك الذي منع من قبول جائزة نوبل.
فضائح الجدانوفية
لو لم تكن الأوضاع سائرة نحو «الجدانوفية»، ما كان شاعر وسيم مثل مايكوفسكي يضطر للانتحار، لولا العجلة الوحشية لما يسمونه «الأدب الملتزم بقضايا الشعب»، ما كانوا يسحقون ماريا تسفيتايفا ويجبرونها على خيار واحد متاح: الموت انتحارا.
كان بالامكان لميخائيل بولغاكوف ان يكتب أعمق من «المعلم ومارغريتا»، وكذلك جنكيز ايتماتوف ورسول حمزاتوف، لكن ماذا سيفعلون لو كان الزعيم خروتشوف يزعق في «فضيحة المانيج» ما ان يرى لوحة لمواطن سوفيتي ضعيف بجسد هش امامه قطعة خبز سوداء؟
ينبغي ان تمرح أخماتوفا في قصائدها حتى لا يصفها وزير الإعلام جدانوف بالعاهرة، وعلى تسفيتايفا تزيين أبياتها بمنجزات الثورة، اما خليبنكوف، ما كان عليه ان يعلم جوزيف برودسكي مبتدأ المعاناة وانتهاء الألم.
سيكون الأدب أفضل بالتأكيد، بل سيكون أدبا حينما يمنح الإنسان الحرية وليس مجرد كتب تحوي نصوصا مؤلفة لغرض ما تستوعب الحد الادنى من قيمتها الفنية، كما في السلسلة الغبية للأدب السوفيتي روايات وقصص من «أجل وطنهم السوفيتي»، إلى آخره من الأعمال الموجهة.
المكتبة الحقيقية
ستكون المكتبة أفضل، لانها ستترجم المؤلفات الجيدة والعميقة والصادقة، وسيبتعد الرقيب عن التلاعب بالترجمة واختيار ما ينقل الى الشعب الذي يجهل هذه اللغة او تلك.
كنا في الاوقات السوفيتية في ضيم حقيقي، حينما نتجول في مكتبات موسكو ولا نجد ترجمات فرجينيا وولف وجيمس جويس ووليم فوكنر ومارسيل بروست وغابريل ماركيز وخورخي بورخيس وغيرهم كثيرون، من دون قراءتهم لا يستقيم ولا يستوي ضلع الاديب الواعد ولا يستطيع ان يدعي كتابة أمر جاد.
وكان من الصعب ظهور أجيال قوية في الأدب السوفيتي لم تطلع على ما انتجته المدارس في العالم في حقل الرواية الحديثة والشعر الجديد، فقد كانت القصائد أناشيد للثورة التي تحولت لتمجيد السلطة السوفيتية وخيالها الزائف في العالم السعيد للبشرية.
الاعتراف الدولي
وللانصاف، تنفس الادباء (وسواهم من المبدعين) منذ اطلاق آخر الزعماء السوفيت ميخائيل غورباتشوف ما عرف وقتها بالعلانية «غلاسنوست»، وحينذاك، ظهرت المذكرات والكتابات الصحفية والأدب الوثائقي والروايات المبكرة التي تميزت بغياب المحرمات وقيود الرقابة الأيدلوجية وظهور حرية التعبير وحقوق وامكانية النشر وتطوير الطباعة وتفعيل المجلات الادبية والمسابقات والجوائز على نحو مكثف، مما ساعد على عودة الأدب الروسي إلى «بورصة الأدب العالمي»، وكسبت مؤلفات فيكتور بيلوفن وفلاديمير سوروكين وبراغنيسكي وفايزمسكي وتروشكين وزادرنوف وأرباتوف وآخرين اعترافا عالميا مع مطلع تسعينات القرن المنصرم.
نجاح تجاري
وهكذا تغيرت الدنيا، بدلا من بحثنا عن الكتب المهربة والزيارات السرية التي كنا نقوم بها لاقبية بائعي الكتب المستعملة والقديمة من اجل العثور على رواية مستنسخة، دارت عجلة النشر وكنا نقف في الطوابير الطويلة من اجل الحصول على ابداعات بيلوفن وسوركين وارباتوف.
وبالطبع، مع تفوقها الفني ـ الجمالي، وضعت هذه المؤلفات أساس النجاح التجاري للمنشورات التي تلتها، واختفت الخشية لدى بيزنس النشر من الخسارة المالية.
في المقابل، كان الجمهور متعطش لقراءة الجديد، المحرض، الكاشف، حيث ملّ البلاغات السياسية المكتوبة في نصوص «أدبية».
الأديب كمعارض
ومع اختفاء الرقابة السوفيتية، جلبت روسيا معها متاعبها الاخرى: الفساد، الحرب القوقازية، سطوة الطغمة المالية والمافيا، المال السياسي في خدمة الحزب الحاكم، مخالفات الاجهزة الامنية.. الخ من «رذائل الديموقراطية».
هذا الحال، وضع الأديب الروسي في خندق المعارضة للنظام في روسيا، ومهما كان موهوبا في انتاج ادبي محايد، فان السلطة بدأت ــ لا سيما في حقبة فلاديمير بوتين ــ بمراقبة ما يلي شروطها، ما يمكن اغفاله، تجاهله او مضايقة كاتبه لغاية حصره بزاوية الخيارات المعتادة: التوقف عن النشر او الهجرة، كما حصل لفيكتور ايروفييف الذي هام بداية إلى ألمانيا ومنها تنقل في جميع انحاء اوروبا يعيش على كتابة الاعمدة الاسبوعية.
الشعر أصدق أنباء
بالتوازي، كل ما ذكرناه ينطبق على الشعر الروسي، فقد عانى على وجه الخصوص ديميتري بريغوف حتى وفاته، ومن الباقين الذين يعانون من التجاهل ليف روبنشتاين، كقارئ، لم اجد في قصائدهم شيئا خارجا عن المألوف، لكن احتفاء الغرب بهما، كونه يجهل روسيا، ولأنهما نقلا «غرائب» (بتصور النقد الغربي)، لذلك وجدا انفسهم بمشاركة غينادي آيجي ممثلين للشعر الروسي المعاصر.
وبحساب الأرقام، فلا يضير تاريخ النقد لو أضفنا إليهم أولغا سيداكوفا التي تكتب من ألمانيا وعرفت بفضل المترجمين الذين اختاروا نصوصها السهلة للترجمة، بينما تركوا القصائد العميقة لمن يتقن الروسية.
في سوق الكتب
ويعاني الأدباء الروس المعاصرين من رؤية ابداعاتهم مترجمة إلى اللغات الأخرى، وبالتالي من الصعب التعريف بأعمالهم رغم حضورها الفاعل للناطقين بالروسية. نشر في هذا الصدد الى اعمال: فيودور أبراموف، فاسيلي شوكشين وفلاديمير تيندروكوف وفاسيلي بيلوف وفلاديمير كروبين وبيتر ألوشكين ويوري بولياكوف وإلى حد ما فالنتين راسبوتين.
جوائز ومعارض
ونجد الكثير من النقاد الغربيين الكسولين يرددون أنه لا يوجد أدب في روسيا المعاصرة، ولعلهم استندوا إلى ما تطبعه دور النشر التقليدية في الولايات المتحدة وألمانيا، وما يحوزه الأدباء الروس من جوائز عالمية.
ولكن روايات مثل «حدوة حصان» لزاخاروف نشرت في مجلة «فاغروس»، قد لا تجد متنفسا في فرض نفسها في معارض الكتاب والندوات وحفلات التوقيع، ومع ذلك تعتبر حدثا أدبيا حقيقيا وتبشر بجيل روائي جديد.
الاتجاهات الرئيسية
إن الأدب الروسي المعاصر يتطور وفقا لقوانينه وكذلك مناطقه.
ولا بد من الإشارة في هذا الصدد الى حسم مسألة الأدب الروسي والأدب المكتوب بالروسية، فهناك ابداعات تظهر باللغة الروسية تنشر في أوروبا والولايات المتحدة وإسرائيل وهي في حقيقة الأمر أدب روسي (خارج المنطقة).
كما نشير إلى ان الأدباء الروس مروا كغيرهم بمرحلة صراع الأدب الحديث من الواقعية إلى «ما بعد الحداثة».
فمثلا حينما فاز فلاديموف بجائزة بوكر برواية واقعية، كأنه حذر انصار بيلوفين ومدرسة ما بعد الحداثة وما أثير وقتها من جيشين متحاربين في الأدب الروسي.
اضف الى ذلك، تميزت أعمال اولغا سلافنكوفا ونيكولاي كونونوف وفيرا بافلوفا وناتاليا جالكينا بالاتجاه الواقعي ـــ اللاواقعي (أي طمس الحدود في ما بينهما)، فيما وجد بوريس آكونين وتاتيانا تولستوي أنصارا لكتاباتهما الواقعية الشعبية.
ومن الممكن ملاحظة التطرف في «التدمير العلني» للاطر الروائية المعروفة لدى داريا دونتسوفا وبولوكوفا ويوتوبيا شورونوفا الذين اعادوا مناقشة العلاقة ما بين الأدب والواقع مجددا في السجالات الأدبية اليومية في روسيا.
ما بعد الحداثة
كنا في الثمانينات نسمع من الأدباء الروس مصطلح «الأدب الآخر» الذي خرج منه ديمتري بيريغوف وليف روبنشتاين وتيمور كيبيروف وايفان جدانوف وفلاديمير سوروكين وفيكتور ايروفييف وآخرون اعتبرهم تاريخ النقد في روسيا ممثلين لما بعد مرحلة (2000-1970) التي تميزت باتجاهين لما بعد الحداثة: الأول، بصفتها (ما بعد الحداثة) نظرة معقدة ومبادئ جمالية وكتلة واحدة. والثاني، ما بعد الحداثة باعتبارها وسيلة للكتابة ما بين العميق والسطحي بما في ذلك: الاقتباس، العاب اللغة، بناء النص بطريقة غير تقليدية، تدمير التسلسل الهرمي للاحداث وعناصر البناء الروائي وما يعتبره النقاد «قيم النص»، نوع جديد من الوعي والافكار، انقسام الروحي والمادي بدرجة لا تمنح النص تفسيرا على نحو متوقع، كالعالم مجهول، مجموعة نصوص متنوعة سائلة في واحد والفكرة تنبثق من تلقاء نفسها، لا وجود للكاتب، القارئ بالقدر نفسه هو الكاتب.. الخ من مئات الأساليب المروعة الجديدة.
الألعاب الجديدة
ان روايات ما بعد الحداثة في روسيا متنوعة جدا، منها كبدلة العيد واخرى مؤسسة كأعمال فلاديمير سوروكين، حيث لا يزال الكاتب يدمر تجاربه الواحدة تلو الاخرى ويختبر انماطا مختلفة.
هناك روايات ميخائيل كونونوف وعرضه التاريخ المخزي المفقود في الحرب العالمية الثانية، وكذلك مايكل ايلزاروف الذي اطلق عليه النقاد «غوغول الجديد» بلغته الثرية الموسيقية المدهشة.
وللراغب في التجول في حديقة الرواية الروسية ما بعد الحداثة سيبرز امامه ديمتري بوكوف وفلاديمير نوفيكوف وسيرغي نوسوف وفاليري ايشكاكوف وأوليغ بافلوف والكسندر تيتوف الذين أبقوا «الكلاسيك» الروسي على قيد الحياة مع نص حداثي معاصر كما فعل فلاديمير نابوكوف، بتنظيمه التقني العادي للواقعية الوجودية التي ارتبط فيها الادب الروسي لاكثر من 70 عاما.ثر من 70 عاما.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق