الجمعة، 3 فبراير 2012

Hable con ella - Talk to her


بساطة عنوان الفيلم الكاذبة تقودنا إلى نص معقد وصعب جدا وضعه في المراتب المتقدمة في كل مهرجانات السينما المحترمة والنقد السينمائي الجاد। ومنذ اللحظة الأولى انطلق بقوة ولا نعرف لماذا تعمد صانع الفيلم والماهر الأكبر بيدرو آلمودوفار إيذاء كل مشاهديه من الثانية الأولى وسيجد أي مشاهد نفسه في «حالة بكاء» ما أن تُطفأ أنوار صالة العرض مباشرة. انه شريط جريء، غريب وغير متوقع من الإسباني المذهل الحسن المخ الذي فاز قبل هذا الشريط في عام 1999 بأوسكار أفضل فيلم أجنبي عن شريطه «كل شيء عن أمي» ووطده فيلم «اللحم الحي» كواحد من أهم المخرجين المعاصرين.و«تكلم معها» المختار لهذا اليوم، قابل للجدل في كل شيء، لاسيما وجهة نظر آلمودوفار (بصفته كاتب السيناريو والمخرج) الخاصة - وربما غير التقليدية - عن الحياة ومجازفاتها والعلاقات وغرابتها والحب وصدفه المفاجئة. لدينا الممرض بينغنو (خافيار كامارا) والصحافي والكاتب ماركو (داريو غرانينيتي) حيث تشده الأقدار إلى عيادة خاصة زبائنها كلهم يقضون حياتهم في الغيبوبة. بينغنو مهمته في العيادة الاعتناء براقصة الباليه وبنت طبيب نفسي محلي ثري أليسيا (ليونور واتلنغ) والتي كان يلاحقها بخجل مريض قبل حملها إلى العيادة بعد أن تعرف عليها في الشارع الذي يفرق بين شقته المطلة على صالة التدريب في المبنى المقابل، وأسلوب التعارف بسيط: سقطت محفظة نقودها ولم تلحظها قبل بينغنو الذي راهن على هذه الفرصة للاقتراب منها، وكانت هذه الحادثة بداية عشق اعتقد أنه متبادل. لكن الشريط لم يهتم بسرد الأحداث بالطريقة المتسلسلة ليظهر أليسيا بلا مقدمات طريحة الفراش تحت الغيبوبة بعد حادثة سيارة وعاشقها الممرض يعتني بكل التفاصيل الخاصة بمريض خارج عن نطاق الحياة، يتطوع بتعويض كل النوبات الإضافية ليعتني بها طوال 24 ساعة لمدة أربع سنوات! تتضمنها أكثر من عودة بطريقة الفلاشباك، لم تكن مصوبة بالتأكيد بتعمد وحملت سلاستها وأهميتها واختيارها الصحيح في مسرى الشريط. في هذه الأثناء داس ثور بعد انطلاقته في الحلبة مباشرة صديقة ماركو ومصارعة الثيران ليديا (روزاريو فلوريس) تاركا آثار قرونه فيها وجعلها نزيلة العيادة لتجاور أليسيا التي كانت قد تعودت على الغيبوبة. وأليسيا تمثل الفكرة الشائعة التقليدية للأنوثة اختيارها راقصة باليه ليس مصادفة، بينما زج ليديا كمصارعة ثيران ينهي الجدل في الثنائية المتناقضة بين المرأتين وحتى في اختيار الممثلتين.
ثمة الكثير من الأفلام تحدثت عن قضية الغيبوبة والأكثر عن الحب والعلاقات بين الرجل والمرأة، لكن شريطنا اليوم الذي رشح لأوسكار أفضل مخرج، غير عادي وخاصة تنفيذه واكتمال كل عناصره، لقد طور السيناريو علاقة بينغنو وماركو اللذين يحبان امرأتين في الغيبوبة (ظرف مشترك) ويتكلمان معهما لسنوات من طرف واحد خالقا رابطة قوية بين الرجلين وبين ذلك التردد الأعظم وانهيال العواطف نحو امرأتين فاقدتي الوعي، وما أروع تلك المشاهد التي يأتي فيه عنوان الفيلم براقا حينما يخاطب أحدهما الآخر: تكلم معها!لقد كان ماضي بينغنو في حب أليسيا أكثر غرابة من ماركو (ماضيه الشخصي يعاني من متاعب جمة) الذي لم يواجه مشكلة في إقامة علاقة مباشرة وصريحة مع ليديا، رغم أنها عاطفيا مؤثرة وتركت جراحها العميقة لديه بعد الحادثة، ولأن الممرض كان يقضي ساعات يومه يتلصص على النافذة المطلة على صالة التدريب، دون أي بادرة منه ليقدم نفسه لها كعاشق رسمي وارتضى اللجوء إلى هوس متابعتها عن بعد، وكانت هذه طبيعة شخصيته الخجولة والطيبة والمترددة وغير المقدامة والتي ليس فيها جرأة، ولأنه قضى 20 سنة من حياته يعتني بوالدته الطريحة الفراش।
كان لدى الممثلين اتزان كامل لحمل شخصيات في منتهى التركيب والصعوبة وأدى خافيار كامارا ملامح الرجل الساذج والقلق ونعتقد أنه كسب عطف من شاهده، وكان داريو غرانينيتي يحمل جراحه معه في كل المشاهد التي ظهر بها والتي كان يحاول أن يكتشف نفسه وحقيقة علاقته مع ليديا، بينما العمل الكبير كان على عاتق ليونور ويتلنغ هو صرف معظم مشاهد الفيلم في الغيبوبة (عارية على الأغلب) أو تؤدي رقصات تعبيرية لها علاقة بالسياق। وبلا شك يفهم بيدرو آلمودوفار كل التفاصيل التي لم نتعرض لها في حياتنا الخاصة، كالعالم الاستثنائي لمصارعي الثيران والطرق التي تتم فيها العناية مع من يعيشون في الغيبوبة، ومن الواضح أنه روى القصة على الورق، ومن ثم جسد كل أفكاره على الشاشة كتفاصيل مربحة للفن، حينما يقدم مصارعة الثيران الأشهر في إسبانيا والتي يقف لها مئات الآلاف من الرجال تذعر من رؤية أفعى في بيتها، هنا ليس المهم تماسك ماركو في تلك اللحظة، قدر الرهان الذي وضعه السيناريو على هذه الحادثة التي حددت الاثنين برمز الأفعى والشال وطعنة الثور اللاحقة التي تغيبها عن الحياة. وواضح أن شجاعتها في مواجهة الثيران تنهار لدى رؤيتها أفعى تأكيد للغريزة الأنثوية التوراتية.هو ذا ما نسميه الأداء الفعال الهادئ الموزون بالاتساق وجمال الحركة والثنائيات المتضادة كتدفق الحياة والموت في الربط بين المشهدين البارعين لاستحمام الممرضين لأليسيا العارية في الغيبوبة وارتداء ليديا ملابس مصارع الثيران، ويا لها من كاميرا صورت الحياة والموت في لحظة واحدة!
قدرة الفيلم
يفتتح الشريط بمشهد من مسرحية «نينا باوش» لموللير حيث الراقصة العمياء (تمهيد لحالة ليديا وأليسيا) في زحمة الكراسي تؤدي الحركات الإيقاعية المنضبطة ورجل خلفها يزيح عنها الكراسي والجدران التي تتلقفها، ومن الواضح أن آلمودوفار حرك كل شيء في الدقائق الأولى لكي تلائم قصته اللاحقة ومن المؤكد أنه انتزع دموع حتى لجان التحكيم والنقاد الذين قرروا معالجة هذا الفيلم الحزين من افتتاحه حتى تدرج أسماء تتر النهاية (كما البداية النهاية برقصة) الذي كان لوحده مشهدا ختاميا مبجلا وواحدة من النهايات الأثيرة في السينما، مع الإشارة إلى ان هذا الطراز من الميلودراما كان قد نبغ فيه وأسسه المخرج فاسبيندر. من جهة الجمهور يجلس ماركو و بينغنو قبل أن يتعارفا وكان الأخير ينظر إلى دموع الأول، في هذه النقطة كانت دموع ماركو علامة على دخوله الشريط مجروحا وبينغنو مذهولا وما بين الجريح والمذهول تكرس إرادة الرجلين، إلى نفسيهما أولا ومن ثم إلى اهتمامهما بحبيبتيهما العاجزتين. وعن البكاء أيضا، فقد أخبر بيدرو آلمودوفار في مقابلة مع الكاتبة السينمائية لورينزا مونوز أنه طوال الفترة التي كتب فيها السيناريو كان يبكي! إن القصة مأساة رجال يكرسون حياتهم لشخص آخر لا يعلم باهتمامهم وحبهم ولا بالذي يجري في الدنيا، هذا الحب المتفوق على الحب حينما تمضي سنوات طويلة وأنت تتكلم مع حبيبتك التي لا تعلم حتى بوجودك، إنه الحب حينما تعيشه في الآخر أو من خلال شخص آخر رغم أنك متيقن حسب كل تقارير الأطباء، إنه لن يفتح عينيه مرة ويصافحك بهدوء ويقدم لك الامتنان، هذه قدرة الفيلم الذي احتفى به العديد من المهرجانات السينمائية.
قصص مشابهة في السينما
وتذكرنا القصة الرائعة «تكلم معها» بواحدة من أهم مآثر السينما التي قدمها لنا فرانسوا تروفاوت «الغرفة الخضراء» - 1978 مستندا إلى رواية هنري جيمس «مذبح الموتى» حيث بطل الرواية والفيلم جوليان يبني أضرحة لكل أحبائه ويملأها بالصور والمقتنيات الشخصية ويصرف كل وقته هناك بالقرب من حاجياتهم، شبيهة مأساتنا بميتي عندما يقع في حب سيسيليا ويعرض عليها أثمن هدية في الحب: أن يموت معها!أن بينغنو في قصتنا الراهنة يشبه ميتي حيث يكرس 24 ساعة من يومه لخدمتها كحافز ماركو الأكثر تعقيدا، والمريع في هذه القصة أن الرجلين يبدوان سعيدين لمنح كل حياتهما لنساء لا يعرفن من أمر هذه التضحية شيء। هو نكران ذات صاف لا ينطلق من قلوب عادية، هو حب مخيف الرحمة وحتى تلميحاته الجنسية كانت إنسانية ولم تشكل أي معضلة أخلاقية، فالولاء للحب كان مطلقا وكانت الطاقة لدى ماركو وأوضح منها لدى بينغنو مدفوعة بشيء عظيم هو الأمل.

الجرأة
ويبدو أن النساء يلهمن آلمودوفار في كتابة الكوميديا حينما يمنحهن البطولة الكاملة، بينما الرجال يمنحونه الحس المأساوي المركز الذي ظهر عليه «تكلم معها»। الأمر نفسه يتشدد فيه حينما يكون رواة أفلامه من الذكور. وحسب معايير بيدرو آلمودوفار لم يكن الفيلم القصير بالأسود والأبيض الذي كان يسير موازيا للشريط الأصلي فيه أي جرأة ولعله تقليدي، لكن في المعايير العامة كان هذا الفيلم الصامت القصير لرجل قصير يحب امرأة عملاقة (في حقيقة الأمر الحبيب يتقلص أمام حبيبته) التزاما كليا بأسلوب المخرج الإسباني المدهش الذي دمج شريطين بميلودراما استدعاها لتأدية مهمة السخرية المطلقة غير المحتملة، إنه استدعاء معقد ونفذ حسب مادة صعبة جدا مكتوبة على الورق وتطلبت مجموعة من الثواني عملا عالي التقنية من مجموعة متكاملة من المتخصصين الذين يظهرون هذه الخدعة السريالية، لينجحوا في ابتكار أسلوب سينمائي دعم الشريط وخدم غرضه الذكي بطريقة مهذبة للغاية. (لا ننسى ولع بيدرو الطفل بمشاهدة الأفلام الصامتة).

هذا الكئيب

إن مخرجنا الإسباني أسود وكئيب وضرباته موجعة وشاطر ويقدم عملا بلا مؤثرات السينما المعاصرة وصخبها، وبهدوء يعالج أعقد العلاقات الإنسانية: الصداقة، الوحدة، أهمية الاتصال في العلاقات والحب। كلها تبدو مواضيع شخصية وخالية من المرح الذي تهواه السينما التجارية. ينجح مجددا بعد أن أبهر محبي السينما في شريطه «كل شيء عن أمي» مركزا على ولعه الخاص بالنساء، من وجهة نظر الرجل الذي ينصهر في الأنثى. وسنحاول أن نفهم لماذا لم يخصص آلمودوفار وقت الشريط عند سرير ليديا كما فعل مع سرير أسيليا، عدا اللقطات التي يظهر فيها ماركو في المستشفى وتأمله الرومانسي في وجه المرأة التي أحبها وفقدها إلى الأبد، والغريب أن ماركو يجد راحة في التكلم مع بينغنو من التحدث مع ليديا. التفسير المتاح لهذه الملاحظة التي تعمدها مدير العمل، أنه قدم رجلا أقل شذوذا من رجاله في أفلامه السابقة، مركزا على التشابه في العلاقة بين: الرجل - المرأة والرجل - الرجل وبين حالة الاستيقاظ التي تربط العلاقة الأخيرة والغيبوبة التي تورطت فيها الأولى.


تشكل أسلوب آلمودوفار
لقد تشكل أسلوب آلمودوفار السينمائي بعد صراع البحث عن الهوية الخاصة للسينما الإسبانية بعد رحيل فرانكو في السبعينات وخروج الأفكار العظيمة من تحت الأرض ولاسيما الميلودراما المتمتعة بالحماس الثوري التي طغت على أعمال تود هاونس وفرانسوا أوزون وخاصة في أفلام «بعيدا عن السماء» و«8 نساء». غير أن آلمودوفار الذي عمل في بداية حياته مع المخرجين المذكورين تخطى فكرة الميلودراما المعتدلة واللامعة والواضحة وخلق موانعه وألصق شخوصه جيدا في بيئتهم الميلودرامية.وهو يشبه إلى حد كبير المخرج الإسباني العبقري لويس بويول في خلق الأفلام غير المألوفة بهدف سريالي استفزازي صادم للجمهور وهو امتداد للمواضيع التي برع في اختيارها مخرجون كبار مثل دوغلاس سرك وفاسبيندر، موظفا مثلهم، الموانع والمحظورات في السينما الأوربية عموما (عدا الإيطالية) كما جسدها في أفلامه الأولى: «كعوب حذاء عالية»، «نساء على الحافة»، «انهيار عصبي» والشريط المتفوق جدا «اللحم الحي» والتصق بها في «كل شيء عن أمي» الذي ظفر بالأوسكار بالطريقة نفسها قدمها في «تكلم معها» ماشيا صوب الأرواح التائهة والغافلة وبمزاج الهوس المقدس للحب الثابت والألم والوحدة حينما يتحولان إلى علاقة وإن كان مفرطا في التجسيد، لكنه مبدعا، وبذلك كان بالنسبة للسينما العالمية مفاجأة من العيار الرائع بنظرته الروحية الفردية وقوة إيمانه بأفكاره وقابليته على ترك الأمور تتحرك منذ البداية لينهي عندها فكرته!
كما أن أفلامه تتحرك بسهولة بين الماضي والحاضر وسلسلة الخيالات العرضية والأحلام القافزة وتشوش الأفكار وهذه أمور في غاية الصعوبة تطورها في شريط سينمائي، لكنها تخرج من آلمودوفار كما لو كان ينبغي أن تكون بهذا الشكل فقط، هنا الحس الراقي الذي يكافح من أجل تصويره ولم يخب أمله على الإطلاق ولا في ميليمتر واحد في الشريط। وكم تمنينا من أفلام ألا تنتهي، وكم شعرنا بالأسى من انتهاء أفلام رائعة كثيرة للغاية، إن هذا الاعتقاد هو الوحيد الذي يلازم أي شخص يشاهد أفلام هذا الإسباني الموهوب الذي يقودنا من المرح إلى الشهوانية إلى الحزن المرير محتفظا بأقصى احترام للجمهور نظرا إلى سلاسة انزلاق شريطه في هذه الموضوعات.
إلى النهاية

ستقترب الدقائق العشرون الأخيرة التي أمضى مؤلف ومخرج الفيلم في الإعداد لها ثلاث سنوات، ليجد المشاهد نفسه في حالة من عواطف الحزن المتناقضة ويكتنفه إيمان سام وأمل متجدد وأذى مصفف بعناية ويطلب أي من شاهد هذه الرائعة أن يكلل صبره بمكافأة في النهاية، لكن ما الذي سيفعله آلمودوفار؟ سيصدم مشاهده بلا رحمة وسيعصره بلا مودة متآمرا مع موسيقار الفيلم ألبيرتو ايغليسيس وكأنهما دردشا كثيرا في كيفية تحطيم الجمهور وانتزاعه من كرسيه وإلقائه بالصوت والصورة في صندوق العجائب الباهر لنتكلم مع كل الذين نحبهم ولا يسمعوننا مرددين عبارة بينغنو المسكين الذي أنهى حياته بابتلاع الأقراص في السجن: تكلم معها.. تكلم.. ربما لا تسمعك، لكني اعتقد أنها تحاول ذلك!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق