الجمعة، 3 فبراير 2012

The Reader


رواية الكاتب الألماني بيرنهارد شيلينغ راجت على نطاق عالمي واسع منذ إصدارها عام 1995 وهي تدخل فيما يمكن أن نطلق عليه «أدب المحرقة». ورغم أن الرواية أرادت الاختلاف عن سلسلة روايات المحرقة، فإنها تأسست على القواعد ذاتها، وخالفتها في أن الضحايا صاروا سجانين. بمعنى، إبراز الجلاد كضحية، بالتقاط حارسة سابقة في قوات «أس أس» النازية الخاصة ((1944) ليبدأ رصدها زمنيا منذ 1958 في علاقة استثنائية مع مراهق يحمل نصف عمرها، انحصرت علاقته فيه بالجنس والقراءة.
فيلم ستيفن دالدري يشد الأحاسيس بطريقة مثيرة، بتقديمه رزمة فاخرة من النصوص الشعرية لهوميروس وقصة «السيدة ذات الكلب الصغير» لأنتون تشيخوف كانا كنصوص خلفية لرواية تاريخ الخزي والحيرة للمرأة الوحيدة التي بدأت تدخل العالم من الحرف الذي كانت تجهله، لغاية النهاية التي ستصعد فيها على تل الأحرف معلنة انتهاء الخجل من الماضي।
هانا شميدت (كيت وينسلت) الباردة والحادة والمرتبكة والمتعثرة والحازمة تجبي التذاكر في الترام ومايكل بيرغ بعمر 15 سنة (الممثل الألماني الشاب ديفيد كروس) ينتمي الى عائلة متوسطة صارمة التربية يهرول بعد المدرسة ليكمل تعليمه الغرامي على يد المرأة الوحيدة وينسلت التي لم يكن معها المخرج دالدري متعقلا فنيا بإكثاره مشاهد العري غير الداعمة للسياق، والتي أجبرت الفائزة بأوسكار أفضل ممثلة 2009 لإشهار قرارها بعدم التعري ثانية في أفلامها القادمة، ولعلها رأت بأم عينيها، أنها لم تعد تلك الفتاة التي بدأت ترقّيها في السينما عبر المشاهد الساخنة।
سيستغرقان بقراءة هوميروس مرورا بتشيخوف وبرواية د। هـ لورنس «عشيق الليدي تشاترلي» لغاية خروج هانا الغامض من شقتها حاملة حقائبها دون توديع مايكل، ثم يقفز مدير الفيلم 8 سنوات إلى 1966 حيث مايكل طالب قانون تحت إشراف الأستاذ رول ( غانز برونو) ليشكل منه وأربعة زملاء آخرين لم نسمعهم يتنفسون، عدا واحدا، مجموعة سيمنار لحضور صنف من المحاكمات التي أصبحت نادرة منتصف الستينات لنساء متوسطات العمر كنّ يعملن حارسات في قوات «أس أس» التي اشرفت ونفذت حملة مطاردة وتعذيب وإبادة اليهود في أوروبا وألمانيا، وبالطبع لابد أن يصيب مايكل الرعب وهو ينظر إلى الأرض عندما سمع باسم هانا شميدت تتحدث، بذات الصوت الذي نقله إلى شقتها الرثة في طريق المدرسة القديمة. سيكبر مايكل ليأخذ دوره (رالف فاينيس) كمحام متمرس بالقضايا الكبرى لديه ابنة تحمل اسم هانا أيضا ويعترف لها «لم أكن منفتحا معك، لست منفتحا مع أي أحد» منهيا غموضه بإزاحة الأزهار عن شاهدة قبر هانا، ملهمته في القراءة والحياة والحب.
عربة اسمها الزمن
يبدأ الشريط لمايكل الذي يشاهد نفسه في عربة الزمن عبر نافذة، سيرجع إلى نوستد ألمانيا الغربية 1958 - 1995 وهو الزمن الذي حدده الإنتاج। ستأخذ العائلة الحيز الأول لمن يحيط بمايكل، شقيقته ايميلي التي تنصحها أمها بالابتعاد عنه لأن الحمى القلاعية التي أصابته معدية، في الوقت نفسه سيقول لها: «ساعدتني امرأة॥ هي التي جلبتني الى البيت»، لم تساله أمه كيف ولماذا، بل سألته: هل تعرف عنوانها؟ بمعنى اذهب لها واشكرها حاملا الورد. المرأة هي محصلة تذاكر في باص عمومي (هانا) التي فوجئ بشقتها المتواضعة وتعاملها الجاف وأول مرة تنظر في وجهه حينما قال لها: لا شيء أفعله، لا أستطيع حتى أن أكون مهتما بالقراءة. نظرتها إليه عندما لم يمنع نفسه من التلصص عليها وهي تغير ملابسها كانت الالتقاء الأول، والثاني عندما ردت صاع التلصص بصاعين، حينما أعدت له الحمام وشجعته على التعري: «هل أنت متعود الاستحمام ببنطالك؟». لا يعرف عنها أي شيء ( تذكير بـ«التانغو الأخير في باريس»)، بعد ثلاثة لقاءات حميمة سألها عن اسمها، استغربت هذا السؤال، هانا - الاسم الذي يبدو مريبا جدا ومايكل، الاقتراب وئيدا لمعرفة بعضهم الاخر.. يدرس اللاتينية، حتما سيقرأ له مقطع من هوراس، هكذا البداية اذن.. الجنس تقدم على الثرثرة في اللغة اللاتينية.
الرحلة الطويلة
كيف تعرفين أنه رائع، مادمت لا تعرفين اللغة؟ ابتهجت بفخر عندما علمت أنه يدرس المسرح، كان يخرج من حقيبته الكتاب تلو الآخر، ها هو يكتب المسرح بالفعل، يحدثها عن مسرحية غوتهلد إيفرايم ليزيج «اميليا غالوتي»أنت جيد في القراءة.. لم أعلم بأني كنت جيدا في أي شيء لكنها المطلع: «الرحلة الطويلة» لهوميروس.
لم تخف أبدا تسلط الراشدين، وبدوره تماشى مع خنوع التلاميذ، في البداية كان الجنس ثم القراءة، بعد 4 اسابيع سينعكس هذا الجدول، الأشعار الكلاسيكية ستنهال عليها، المسرح الخالد والحوارات الفخمة، تبكي، تضحك، تتجهم، تقرف... كما الحياة.. الحياة.. معاناة أكثر..أحبها أكثر،،
الخطر سيزيد من حبي فقط..
ستترك الحياة مهما كان جميلا الدخول إليها
ستاخذك السماء،
تنظر إليها وتقول
أمر واحد يمكن أن يجعل الروح كاملة
ذلك الشيء هو الحب
كتب قصيدة عنها، ليست جاهزة، وعدها أنه سيتلوها لها يوما، كانت تتودد زميلة له في المدرسة، صوفيا، لكنها جاءت متأخرة بعض الشيء، فقد كان واقعا في الحب। حتى في عيد ميلاده حينما دعوه وفي مقدمتهم زميلته صوفيا للاحتفال، لم يكن أمامه سوى القول : آسف أنا واعدت شخصا آخر، هذا الاعتذار كان كافيا لأن تطرق الفتاة التي في عمره، رأسها إلى الأرض. خسرت اليوم. كانت تبكي، تتألم، لم تكن ممارسة الحب إلا نوعا من الوداع: الآن يمكنك أن تذهب إلى أصدقائك. تنظف كل شيء، تحمل حقائبها وتذهب، صوته الداخلي يدفعه الى ترك الشاطئ، لكنه وصل متأخرا، سينام على سرير الغرام الأملس من أي شيء كسطح صخور جرداء، متلمسا ضوءها. سيخاطبه الأب: اعتقد كلنا اعتقدنا أنك ستعود في النهاية، سيجد أول نهر، ليستغرق فيه عاريا، بحثا عن آثامه، لا غاسلا إياها. لقد كان عناقه مع النهر وتركيز الشمس على جسده لحظة التوق إلى البراءة، واحدة من أجمل لوحات الشريط، كما لقاءاته مع ابنته جوليا ( يا للمصادفة॥ اسمها الحقيقي هانا هيرزبرينغ) بنظراتها الطيبة والمتسامحة والتي تعيش في باريس، أرادت الهرب من برلين فحسب، يخاطبها مايك المحامي والأب: كم أنت مخطئة.
الضحايا المتأخرون
سمع في واحدة من التطبيقات كمحام: هانا شميت في المحكمة ورأسه على الأرض.. نحن الان في عام 1966.. هانا ولادة 1922 وبعمر 43 الآن تحاكم انضمت إلى «أس أس» 1943 : حينما كانت تعمل في مصنع سيمينز وعرض عليها الترقية لماذا رفضتها وانضمت الى «أس أس»، سمعت بوجود وظائف هناك كحارس، الاتهام كان هو المساهمة في نقل سجينات يهوديات في شتاء 1944 فيما يسمى «مسيرات الموت»، ستبدأ رحلته نحو معرفة العدالة.. مرددا في ذاكرته محاضرة القانون: المجتمعات تعتقد أنها تحت سيطرة المبادئ الأخلاقية لكنها ليست كذلك، لأنها تحت سيطرة القانون. القانون حتى لو كان «ضيقا». سجينات للقراءة كتاب السجينة الهاربة «لانا ماذر» (أليكساندرا ماريا لارا ) تقول: كانت هانا تختار السجينات الشابات ليقرأن لها فحسب.. يقرأن..هي انسانة جدا ورحيمة، اختارت الضعفاء والمرضى لكي تحميهم، وتبعثهم الى الموت.. أي رحمة؟
كلما قلت المسيرة زاد الركض نحو الموت. لأن أحدا ما فكر في كتابة كتاب عن 300 يهودية لقين حتفهن حقا في كنيسة بمعية 6 حارسات، ألمانيا وأوروبا كلها كانت مليئة بمثل هذه الممارسات، هل تتحمل الحارسات ذنب ما حصل في كل أوروبا؟ لماذا رفض الدخول الى الزنزانة، لماذا لم تفتح ابواب الكنيسة، السبب نفسه.. ذهب الى صديقته. هل يمكن أن يحمل الانسان الذنب بسبب الخجل؟ وعندما أرسل لها في السجن تسجيله الصوتي للرحلة الطويلة لهوميروس الأداء الرهيب، فن السينما يرقى بالمشهد؛ إغلاق المسجل بعد سماع صوته:
يغني لي الرجل الإلهام
رجل اللقاءات والأدوار
قاد مرارا وتكرارا خارج المسار
عندما سلبت المرتفعات المقدسة لطروادة.
صوته بكلمات هوميروس كان يشدها إلى الحياة: انني معك، رجل الماضي جاء يقرأ لك متاهات الرحلة الطويلة।
سرّ تشيخوف
يبدأ تشيخوف بـ The الأحرف الثلاثة لتشيخوف لينتهي بـ Dog تركيب الجملة : The Lady with the Little Dodالأولى والأخيرة ستة أحرف، الجملة من ست كلمات والصفحة تتكرر فيها The ست مرات أيضا. ما السرّ في The؟
وحينما تجنح للرومانسية، هل يوجد أفضل من شيللر؟
يأتي تلفون هانا شميت سيطلق سراحها بعد 20 سنة، ليس لديها معارف ولا اصدقاء، سيخاطب الصوت مايكل المحامي الشهير : انك صلتها الوحيدة॥ انها ستحتاج الى مكان تعيش فيه، الى العمل، انك لا تتصور كم سيكون العالم الجديد بالنسبة اليها مخيفا। هل تستطيع تحمل مسؤوليتها، لا يوجدا لهانا شميت أي مستقبل. ستواجهه بأول كلمة منذ افتراقهما عام 1958 ولغاية 1980 : لقد كبرت يا صغيري. سيسألها : هل قرأت كثيرا؟ وتجيب : أفضل أن يقرأ لي. بمعنى دعني أعيش معك يا صغيري، سيسألها: هل تقضين وقتا طويلا بالتفكير في الماضي. تجيبه: لا يهم ما أفكر فيه، فالموتى لا يزالون ميتين. بعد هذا الحوار ستصعد على الكتب وتشنق نفسها.
مصالحة الأجيال
لم تحدث المصالحة بين الأجيال، ولم يقف مايكل ليدافع عن هانا في أشد لحظات عوزها لأحد ما في القاعة يقول الحقيقة، في أنها لم تكتب التقرير الذي لفقت فيه زميلاتها تفسيرهن الغريب في تركهن 300 امرأة يهودية يحترقن في كنيسة تلتهمهن النيران دون أن يفتحن الأبواب لهن ليمتن حرقا عدا واحدة ستهرب بطريقة ما، لتنشر الكتاب عن هذه الحادثة في الولايات المتحدة والذي سيثير قضية محاكمتهن। حينما نكرت هانا كتابتها للتقرير المزيف، وضعوا أمامها ورقة وقلما ليقارن المدعي العام خطها مع مخطوطة التقرير الذي بحوزته، لكنها بعد تردد وتمثيل متفوق من وينسلت، قالت لا داعي للاختبار «أنا من كتب التقرير». لم يصرخ مايكل ويحقق المصالحة مع ذاته والأجيال التي حطمتها الحرب والأخرى التي ظهرت بعدها ولم يقل الحقيقة، لم يخبر المحكمة أنها تخجل من أميتها، هذه المرأة تحب القراءة، تهوى أن يقرأ لها أحد ما وستبقى تدافع عن خجلها وإثمها مادام «الموتى ما زالوا موتى» وأنها لا ينبغي أن تسأل عن واجبها وإن كان بالإمكان محاكمتها على تلك المرحلة الوحشية.
أسئلة الفن
لقد كانت شخصية مايكل هي التي تدير الفيلم، وليس هانا، ورغم أن كل الأحداث الرئيسية تخص كيت وينسلت، إلا أنها لم تسيـّرها طوال 123 دقيقة। ماذا لو انتهى الفيلم بمشهد صعود هانا على الكتب وانتحارها، وهل كان ثمة داع للمحاضرة المباشرة بين مايكل وابنة الناجية من المحرقة، أي مشاهد كان يحتاج تذكيره أن «الأمية لم تكن يوما مشكلة يهودية»، لمن كان التحذير المتكرر حول «المحرقة» الذي منح الشريط نهاية أقل ما توصف فيه أنها حمقاء؟ هل كان السيناريو منشغلا بالفعل، لكي يعطينا انطباعا بأن الأمية كانت عذرا للهمجية ولكي يخفي المرء أميته عليه أن يعمل حارسا في القوات النازية الخاصة؟ أليس من الأجدى – فنيا – الانحياز إلى الجمال الشاحب لدى المذنبين والجبناء والسلبيين والضعاف والذين لم يقولوا الحقيقة حينما أزف وقت قولها؟ لم يحدث مثل هذا الأمر. ولم نفاجأ، لأن الفيلم صمم كشريط هوليوودي لحصد الجوائز والمشاهدين الذين يتم إغراءهم بحكاية جذابة ومؤثرة، والأولويات التجارية جعلت الألمان يتحدثون الإنكليزية كما جرت الأعراف. يمكن القول ان القصة لم تكن عن المحرقة، قدر ما مسّت الجيل الذي كبر بعدها (أو في ظلها) والشريط نموذج لسلسلة هوليوود عن المرحلة النازية بكل ما تواجهها من معضلات أخلاقية شائكة.
الناجون في النهاية
ومن الواضح أن الجميع دفعوا الثمن، مايكل حينما وقع في حب الشخص الخطأ وهانا بذنوبها الغامضة كندبة في الوعي الألماني الجماعي والمخرج بخنقه نهاية الشريط من أجل تقديم المواعظ التي تخلى عنها في فيلميه السابقين «بيلي إليوت» و«الساعات» وكأنه تخصص في منح نجماته أوسكار أفضل ممثلة بعد أن نجح مع نيكول كيدمان عندما لعبت الأطوار المعقدة لفرجينيا وولف। لقد نجا «القارئ» بأعجوبة من السقوط الكامل بفضل رواية بيرنهارد شيلينغ، لأنها طرحت أسئلة كبيرة حول الشر والإثم والتوبة والرغبة والحب والماضي المظلم وتجسيد دقيق لجلد الذات وتسديد ثمن الخيار مهما كان بشعا.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق